الخميس، 15 نوفمبر 2012

الغزو الثقافى و اغتصاب هويات الشعوب

الهوية الثقافية
تتكون الهويات الثقافية للمجتمعات البشرية من عدة عناصر رئيسة تتمثل فى اللغة و الدين و الأعراف و القيم الأخلاقية و التاريخ, و تتباين درجة إنتماء تجمع بشرى معين الى إحدى الثقافات بناءا على توافر (وحدة) كل عنصر من تلك العناصر المذكورة.
و تعد الهوية الثقافية أوسع و أكبر قاعدة للتعريف بالذات, فساكن مدينة القاهرة مثلا يمكن أن يعرف نفسه - من ناحية الإنتماء الثقافى - كمصرى و عربى و مسلم و إفريقى, و ساكن مدينة روما يمكن أن يعرف نفسه كرومانى و إيطالى و كاثوليكى و غربى و أوروبى, و يمكن لآخرين أن يعرفوا أنفسهم على مستويات ثقافية أوسع. و لكن الهوية الثقافية لا ترتبط حتميا بالبعد الإقليمى ; فالثقافة الغربية مثلا تظهر فى أمريكا الشمالية مثلما تظهر فى أوروبا, و تشق طريقها فى غيرها من البلدان التى ما زالت تحتفظ بهويات ثقافية مستقلة.

الغزو الثقافى صنو للغزو العسكرى

قديما كانت البلدان الإستعمارية الكبرى تقوم بعملية الغزو العسكرى للبلدان الأقل تحضرا بغرض إستنزاف مواردها و إخضاعها لتبعية الدول الأكثر تحضرا, و كان سكان تلك البلاد الأصليون يدخلون فى قائمة تلك الموارد المستنزفة, لكونهم - من منظور المستعمر المتحضر - أجناس دنيا من الهمج و البرابرة و الرعاع, و لذا فكان من الطبيعى أن يكونوا أدواتا تستخدم لخدمة الغربى الأبيض المتحضر.
و بمرور الأزمنة لم تتغير غاية الدول الإستعمارية الكبرى فى إستنزاف موارد العالم و إخضاع الشعوب لتبعيتها, و لكن الوسيلة تطورت - و إن لم ينتهى إستخدام الوسيلة الأولى فى كثير من الأحيان - فبدلا من إحتلال الأرض وجد إحتلال العقل, و بدلا من إحتلال الأوطان وجد إحتلال الوجدان و إحتلال الإنسان.
و هذا هو جوهر التفرقة بين الغزو العسكرى الذى يدمر و يخضع بقوة السلاح من الخارج, و بين الغزو الثقافى و الفكرى الذى يدمر و يخضع من الداخل, تخضع الشعوب بمطلق إرادتها الحرة. يقول إبن خلدون : 
"إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها"

الغزو العسكرى عملية إحتلال و إستعمار للأرض بهدف إستنزاف مواردها, عملية تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة و تهتك الأحجبة و تراق الدماء و يتم إجبار المستعمر (بفتح الميم) على قبول رغبات المستعمر (بكسرها)  بقوة السلاح الغاشمة, أما الغزو الثقافى فهو عملية إحتلال و إستعمار للعقل البشرى, و طمس لهوية المجتمع المستعمر دون الحاجة الى قوة السلاح.
و فى أحيان يرافق الغزاة العسكريين طلائع غزو ثقافى, و فى أحيان تأتى طلائع الغزو الثقافى وحدها تستعمر العقول و تدمر و ترسم الخطط لنقل المستعمر (بفتح الميم) عن مساره العقلى مثلما ينقل القطار من خط لآخر.

روافد الغزو الثقافى

الأفكار الغاربة التى يبثها الغزو الثقافى تجد تربتها الخصبة الصالحة لنموها و إنتشارها فى المجتمعات المتصدعة ثقافيا و أخلاقيا الخاوية فكريا, بعض تلك المجتمعات قد لا يكون من السهل إستعمارها عسكريا, و لكنها لديها قابلية للإستعمار على المستوى الثقافى  و الفكرى. و إذا وجدت تلك الأفكار الغاربة مقاومة أو عدم قبول لدى المستعمر (بفتح الميم) ما تلبث أن تتلفح بعباءات ليست لها, فنرى على سبيل المثال إسلاما ليبراليا و آخر إشتراكيا و ثالث يمينيا و رابع تقدميا, و لربما وجدنا إسلاما علمانيا أو إسلاما إلحاديا فى المستقبل القريب.

تسلك طلائع الغزو الثقافى سموتا متنوعة و تشق طرقا عديدة لتحقق أهدافها, منها أن تكون النخبة المتربعة على رأس السلطة مؤيدة و متحمسة و فاعلة و متحركة بحزم فى إتجاه عملية طمس الهوية الثقافية للأمة, و منها أن تورد الأفكار الغاربة عن طريق الأفلام و المسلسلات التلفزيونية فيتوهم الناس أن تلك أمور طبيعية و تلك سنن الحياة و نواميسها. و منها أن تشرع الأقلام و العقول التغريبية فى بث أفكارها فى الصحف و المجلات. و منها أن يفرض المستعمر سطوته على الجهاز الإعلامى بالكلية, و هذا هو أهم رافد من روافد الغزو الثقافى و الفكرى; فالجهاز الإعلامى بشقيه التلفزيونى و الإذاعى له التأثير الأعظم على تشكيل وعى المواطن. فالمواطنون و خاصة ذوى الوعى الضحل يكونون أمام وسائل الإعلام مجرد متلقين سلبيين, فعندما تسيطر الحكومات و النخب على الأجهزة الإعلامية يسهل أن تغير قيم و إعتقادات المواطنين السلبيين عبر التكرار و الإلحاح الدائم بأن كذا و كيت هو الصحيح و هذا و ذلك علينا التخلى عنه.
و بهذا فإن ما يفعله السلاح بقوة غاشمة, تفعله الأجهزة الإعلامية, ولكن الفارق أن فى الحالة الثانية يكون المواطن راض و متقبل بل و مقتنع يقينا بأن هذا الأمر (الذى كان يرفضه من قبل) أمر طبيعى و واجب و لا بد منه.

كما يعد الكتاب المدرسى رافد فى غاية الأهمية من روافد الغزو الثقافى و طمس الهوية و إلغاء الشخصية, فالطالب ينشأ منذ الصغر على أن كذا و كذا و كذا هى الأمور العلمية و الصحيحة, و أن عليه فعلها لكى يصل الى درجة التقدم الموجودة فى الغرب المتحضر.
و يتم تزييف الحقائق التاريخية لتتلائم مع الفكرة المطلوب (تشريبها) للطالب الناشئ.

ففى الدول الشيوعية كان الطالب يتشرب الأيدولوجية من الصغر لينشأ شيوعيا دون تفكير, هناك قول مأثور عن فلاديمير لينين يوضح هذا الأمر و هو "أعطنا الطفل لمدة 8 سنوات و سيصبح بلشفيا للأبد". و فى الدول الرأسمالية يتشرب الطالب ما يتوافق و التوجه الإقتصادى للدولة.

و خلاصة القول أن الغزو الثقافى يدخل إلينا من كل جانب, من الصحف و المجلات و الكتب المدرسية و التلفزيون و الإذاعة!!
و بهذا تكون إرادة التبعية الحضارية و الثقافية نابعة من قلوب الناس و من عقول النخبة الحاكمة, فتتحقق شروط نجاح تلك التبعية (إرادة فوقية و إرادة تحتية).
 يبرر بعض أنصار التغريب الأمر بنفى صفة الغزو عنه, فينعتونه بالتلاقح الثقافى أو حوارا  ثقافيا حضاريا لابد منه,  أو بأن الغرب قد أثبت نجاحه فعلينا اتباعه, أو بأن الثقافة الغربية هى الثقافة (الكونية) و التى يجب أن تسود. 
و هذا كله محض هراء و شعارات واهية ; فأى تلاقح ثقافى هذا الذى ينتج عنه شبابا يجدون صعوبة بالغة فى قراءة نص بلغتهم الأم؟!! أى حوار فكرى هذا الذى ينتج شبابا لا يعرفون شيئا عن تاريخهم سوى القشور الزائفة التى تشربوها فى المدارس؟!!
إنه ليس تلاقحا و لا حوارا و إنما إغتصابا ثقافيا.



الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

العدالة الإجتماعية كبناء أخلاقى و واقع إجرائى (2)

أستأنف فى هذه المقالة حديثى حول قضية العدالة الإجتماعية متناولا فى هذه مفهوم العدالة الإجتماعية فى الإسلام و ستكون هذه المقالة بإذن الله بداية سلسلة مقالات عن هذا الموضوع. 
كانت الفكرة الأساسية و خلاصة المقالة السابقة حول العدالة الإجتماعية هى:- أن إشكالية غياب العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما هى إشكالية ذات جوانب متعددة و بالاستناد الى ذلك لا يمكن حلها وفقا لنموذج واحدى الرؤية, لن تحل بإعادة توزيع الثروة فحسب مع بقاء المنظومة الإخلاقية على فسادها و تعفنها تكاد تعصف بالمجتمع,و لن تحل بإصلاح المنظومة الأخلاقية دون إعادة توزيع عادل للثروة, لن تحل برؤية واحدية, بل لابد من طرح حلولا تشمل جميع جوانب القضية. و هذا المفهوم يمثل القاعدة الأساسية للعدالة الإجتماعية فى الإسلام, فهى وحدة ثنائية القطب.
و الإسلام لكونه نظام و منهاج حياة متكامل يعنَى بتنظيم شئون حياة البشر فى كل المجالات و منها بالطبع المجال الإقتصادى, و لكنه يبين القيم و الأطر الحاكمة لهذا المجال تاركاً التفريعات و التفاصيل للبشر ينظمونها مثلما يتوافق و بيئتهم لأن الحياة الإقتصادية بطبيعتها متغيرة. و هو لا يسير فى الإتجاه اليمينى الرأسمالى ولا الإتجاه اليسارى الإشتراكى, و إنما يشق طريقه الخاص.
و يخلق الإسلام علاقة توازن بين الفرد و المجتمع فهو الذى أنشا فى المدينة المنورة منذ مئات السنين مجتمعا قائما على عدل إجتماعى راسخ, مجتمع ما كان أحدا ليحلم به.

العدالة الإجتماعية فى الإسلام بناء أخلاقى و إجراءات واقعية.
أما البناء الأخلاقى فيقوم على ركيزة أساسية هى التحرر الوجدانى الكامل, أى تحرر النفس من الخضوع, فقد وضع الله من التشريعات و المبادئ ما يكفل للإنسان إحتياجاته الأساسية و أهم تلك المبادئ هو المساواة الإنسانية الكاملة حيث لا تفرقة بين البشر, حيث لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى, حيث الناس سواسية كأسنان المشط. و المبدأ الثانى هو مبدأ التكافل الإجتماعى و هو إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض, فكل فرد عليه مسؤولية تجاه المجتمع "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته" و ليس هذا التكافل هو مجرد الشعور المعنوى الطيب الحسن و إنما أعمال و أفعال واقعية.
و الإسلام برؤيته المتكاملة يضع على رأس أولوياته قضية إصلاح المنظومة الأخلاقية ; فبقائها على فسادها يستحيل معه تحقق أى شكل من أشكال العدل الإجتماعى, و إن تحقق فهو مجرد صورة زائفة مشوهة..سرعان ما تزول!!

كما يضع القرآن بعض الأطر الحاكمة التى تحكم المجال الإقتصادى و تشكل ركائزا لتحقيق العدالة الإجتماعية, و إن كان لا يتطرق الى ما دونها من التفريعات الجزئية و يتركها لإجتهاد العقل الإنسانى.
و من هذه الأطر و القواعد مبدأ الزكاة, تلك الفريضة الإسلامية التى يصورها البعض فى صورة المنة أو العطف..بينما هى ليست كذلك على الإطلاق, إنها حق و فريضة إسلامية و ركن من أركان الإسلام..هى حق الفقراء فى أموال الأغنياء, ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يمكن للدولة المسلمة أن تأخذ ما تشاء من أموال الأغنياء عن طريق فرض الضرائب التصاعدية من أجل تحقيق التوزيع العادل للثروة.
المبدأ الثانى هو تحريم الفائدة على رأس المال (الربا) فهو محرم بنص قرآنى صريح و توعد الله آكلوا الربا بعذاب شديد "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
كما يحرم الإسلام الإحتكار, و يفرض العمل كقيمة أساسية فى حياة كل فرد.
و يصون الإسلام حق الملكية الشخصية و لكنها ليست مطلقة, الموارد العامة على سبيل المثال ليست قابلة لأن تكون ملكا لأشخاص..و الإسلام يقوض تلك الملكية الشخصية بالواجبات الإجتماعية "كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"

و بالطبع تختلف نظرة الإسلام تماما عن فكرة السوق الحر المتجرد من أى قيمة أو مرجعية أخلاقية, فالسوق الحر معنى بالربح و خفض التكاليف الإنتاجية قبل كل شئ, و فى إطار السوق الحر يصبح كل ما يربح سلعة بداية من الأطعمة الفاسدة مرورا بالمواد الإباحية وصولا الى الأسلحة الفتاكة!!
أما الإسلام فيرفض هذه الرؤية المادية النفعية بشكل قطعى, فالإنسان هو المعنى و ليس الربح, و لذا يمكن إعتباره أخلاقيات إقتصادية و مبادئ أخلاقية أكثر من كونه نظاما إقتصاديا.

ختاما: إنها لمن حكمة الله سبحانه و تعالى و رحمته أنه وضع لنا قواعد و أطر رئيسية و ترك لنا مجالا فسيحا يجول فيه الفكر البشرى ليبدع و ينتج.
و لذا فالمسلمين يجب أن يتطلعوا الى نظام إقتصادى كفْ بمرجعية أخلاقية ثابتة معنى بالإنسان قبل الربح..يحقق العدالة الإجتماعية و يخلق التوازن الإجتماعى.

و للحديث بقية.

الخميس، 4 أكتوبر 2012

نهاية الإنسان

أثناء دفاعه عن نفسه قال أدولف أيخمان (مسؤول كبير بالرايخ الثالث و ضابط بالقوات الخاصة الألمانية) أنه مواطن مخلص, يدين بالولاء المطلق للوطن (ألمانيا النازية) و أنه لم يقم بشئ سوى تنفيذ الأوامر التى تلقاها, و قد نفذها بإتقان شديد و على أكمل وجه. 
و ذلك مثال واضح للعقلية البيروقراطية الرشيدة التى تنفذ ما تؤمر به دون تفكير فى أى شئ, لأن من يفكر قد يخطئ, أما من ينفذ دون تفكير فتكون نسبة خطأه ضئيلة و بالتالى لن يعرض نفسه للعقاب, و بهذا أصبح الموظف البيروقراطى غير مسؤول عما قد ينتج من كوارث كنتيجة لوظيفته التى أداها, فهو مجرد حلقة واحدة و وظيفته حلقة واحدة فى سلسلة طويلة تنتهى بالهدف الذى وضعته الدولة..و الذى قد لا تكون كل حلقة منفردة على علم به.
 تم ترشيد الإنسان فى هذا الإطار النفعى و صياغته ببساطة كموظف بيروقراطى ينفذ دون السؤال عن الغاية أو كمنتج دون السؤال عن هدف الإنتاج أو كمستهلك غارق فى المنظومة الإستهلاكية التى لا تكترث بأية قيم, فكل ما يُربح يدخل فى إطار المُنتجات بما فى ذلك الأسلحة و الأطعمة الفاسدة و المواد الإباحية التى لا يتم التعامل معها من منظور إنسانى أخلاقى و إنما من منظور إقتصادى نفعى بحت منفصل عن أى قيمة و أى غاية, و ذلك الاقتصاد المنفصل عن الإنسان يتجسد فى السوق الحر مثلما يتجسد فى سيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج, ففى السوق الحر يوجد كل ما هو مٌربح إقتصاديا حتى و إن كان مدمر إنسانيا, و بسيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج تصبح (مصلحة الدولة العليا) - ذلك المصطلح الفضفاض - هى المطلق الوحيد, و يصبح الإنتاج فى حد ذاته غاية.
و قد سارت عمليات الترشيد (و الترشيد هو صياغة الإنسان و الواقع فى إطار الرؤى المادية) سارت فى طريقين متوازيين يوصلان فى النهاية الى نفس الهدف, و لكن السير فى طريق واحد منهم دون الآخر يجعل الوصول للهدف أمرا مستعصيا, الطريقان هما الترشيد من الخارج و الترشيد من الداخل.

الترشيد من الخارج قامت به مؤسسات مثل الجيش و جهاز الشرطة و المخابرات و الشرطة السرية و غيرها من أجهزة القمع الخارجية الأخرى و من خلال رؤية الإنسان على أنه مجرد مادة إستعمالية تتم عمليات الإنتاج الكثيف فى المصانع على الرغم مما قد يواجه الإنسان من إنهاك, و ما قد يضعف صحته مثل عوادم المصانع, فليس هذا هو المهم, بل الأهمية الكبرى للعملية الإنتاجية بعيدا عن أى قيمة إنسانية’ و بهذا يتم تدمير الإنسان تماما من الخارج.

و لكن هل هذا كاف؟! هل اكتفت المنظومة بالتحكم الخارجى فى الإنسان؟
بالطبع لا, و السبب هو أن ذلك التدمير الخارجى يمكن أن يشعر به الإنسان فيقاومه بكل ما أوتى من قوة, لابد إذاً من عملية ترشيد على نحو مغاير, لا يشعر بها الإنسان فلا يقاومها. عملية ترشيد تحدث بالرغم عنه, كان لابد من التدمير من الداخل, تدمير لا يشعر به الإنسان ولا يدركه.
حدث هذا الترشيد عن طريق المؤسسات الإعلامية و التربوية و إعادة صياغة المناهج الدراسية لتعبر عن رؤية الدولة, و بهذا لم تعد الدولة بحاجة الى أجهزة تستخدم القوة الغاشمة لإرغام الشعب على فعل شئ لا يريده, فالشعب بعد هذا الترشيد الداخلى و تزييف الحقائق سيفعل نفس الشئ و لكن سيكون هذا نابعا من إرادته.
و يقول على عزت بيجوفيتش: "إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة و الراديو و التلفزيون, هى فى الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير. فمن ناحية يوجد مكتب المحررين و هو مكون من عدد من الناس عملهم هو إنتاج البرامج, و على الناحية الأخرى ملايين المشاهدين السلبيين."
و هذا الترشيد المنهجى يستوعب الإنسان تماما داخل المنظومة, كما يتم التدمير الداخلى عن طريق إستيعاب الإنسان داخل المنظومة الإستهلاكية بحركتها الدائمة المتجردة من كل غاية و كل قيمة.
و هكذا فإن كل ما يقوم به الإنسان هو أن ينتج كثيرا ثم يستهلك كثيرا ثم يموت.

و على الرغم من أن كلا الطريقين فى غاية الأهمية من أجل التدمير الكامل للإنسان, إلا أن الطريق الثانى (الترشيد من الداخل) يمتاز بأنه لا يمكن أن يشعر به الإنسان أو يصعب ذلك, كما أن مقاومته أمر فى غاية الصعوبة, فالمقاوم كأنه يقف أمام تيار متدفقا..قاتلا..فيصل الإنسان الى نهايته.
و لكن صعوبة الأمر لا تعنى أن الإنسان يجب أن يذعن و يستسلم للتيار.عليه أن يحاول ألا يتم إستيعابه داخل المنظومة, عليه أن يقاوم تلك العملية, عليه أن يؤمن بأنه ليس مجرد مادة إستعمالية توظفها الدولة فيما تشاء...عليه أن يجاهد عملية تدميره...وذلك الجهاد الأكبر.

السبت، 22 سبتمبر 2012

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

هل تغيير أو إصلاح أوضاع أى جماعة يحدث بمجرد إسقاط الأنظمة و الحكومات المستبدة و إستبدالها بأنظمة و حكومات أخرى؟
و هل تنصلح أوضاع الجماعات إذا تغيرت السلطة و لم تتغير الأنفس؟
هل يمكن أن تكون السلطة هى من يغير الأنفس و يصلح الأوضاع؟

إن تغيير الحكومات و الأنظمة هو عمل سهل إذا ما قورن بالعمل الأكبر و هو تغيير الشعوب, من الممكن - و هو ما نراه يتكرر فى تجارب عديدة - إستبدال مجموعة من الطغاه المستبدين بمجموعة أخرى أقل طغيانا و إستبدادا, و يمكن أن نغير الدساتير و الأسماء و الأعلام و الشعارات, و أن نحتفل بذكرى التغيير العظيم المبارك, و لنسأل أنفسنا, ما الذى أحدثه إستبدال الأنظمة الفاسدة بأخرى أقل فسادا؟ هل إنصلحت الأوضاع؟ هل غاب الظلم؟ هل أكل الجائع؟ هل ارتاح الناس؟
إن طريق الإستيلاء على السلطة ثم بدء الإصلاح هو طريق مسدود!
إذا أراد الناس أن يهربوا من الحقيقة الشاقة فإنهم يوهمون أنفسهم بأن السلطة قادرة على إصلاح أوضاعهم و من ثم يرتاحون و يسكنون و يتركوا السلطة تعمل ما تشاء, فهى القادرة على الإصلاح, فلنرتح نحن, هم سيصلحون!!


إنهم يهربون من المرحلة الأولى و الأساسية و ذات الأهمية الكبرى و الصعبة من التغيير, تلك المرحلة هى تغيير الأنفس, ذلك الجهاد الأكبر. فكما أشرنا سابقا لا يمكن إصلاح أو تغيير أوضاع أى جماعة إذا ما كانت المنظومة الأخلاقية باقية على فسادها تنذر بالعصف بالمجتمع كله فى أى لحظة! و كما أشرنا عند حديثنا حول العدالة الإجتماعية إعادة توزيع الثروة (و هو الحل الأسهل) لن يكون كافيا من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما, فمع بقاء المنظومة القيمية على ما هى عليه, لن يجدى أى حل (إقتصادى)..و أشرنا الى وجوب تقديم نموذج يطرح حلا ثنائيا. إصلاح المنظومة القيمية و إعادة توزيع الثروة.
و هذا الحديث لا يخص مسألة العدالة الإجتماعية بمفردها, بل إنه يسرى على جميع مجالات النشاط الإنسانى.

إن القرآن الكريم يقر بوضوح أن تغيير النفس و إصلاح المنظومة الأخلاقية شرط أساسى سابق على تغيير أو إصلاح أوضاع المجتمعات البشرية, حيث يقول تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد : 11]. فلا يمكن أن تتغير الأحوال أو تنصلح حقا بالحلول السياسية أو الإقتصادية فحسب, بل لابد من نموذج تركيبى, يشمل كلا من الإصلاح الجوانى و البرانى, مثلما يقر القرآن.

و هذا الإقرار قد تأكد عمليا و بوضوح فى العصر الأول للدعوة الإسلامية (عصر صدر الإسلام) فقد كان القرآن طيلة الثلاثة عشر عاما الأولى للدعوة (القرآن المكى) مقتصرا على قضايا العقيدة والإيمان و تأكيد المسؤولية و إصلاح النفس..و بكلمة واحدة (إصلاح المنظومة القيمية), و لم يتطرق الى التفريعات و التشريعات المتعلقة بالقضايا العملية و الأنظمة السياسية و الإجتماعية إلا بعد أن إستوفت تلك القضية حقها كاملا.
ولا يعنى كلامى أن يجلس كل منَا فى منزله وحيدا منعزلا عن المجتمع و يحاول تغيير نفسه فى المنزل, و يصمت على الظلم و القمع و الفساد, إن تمرده على هذه الأوضاع القائمة المخالفة لإنسانيته هو فى حد ذاته خطوة كبيرة فى طريق إصلاح نفسه, إن هذا التمرد على تلك الأوضاع يعد قيمة أخلاقية عظيمة. إن الثورة على الأنظمة الفاسدة و الطغاه المستبدين هى قيمة أخلاقية عظيمة, لأنها تقوم من أجل القضاء على شئ لا أخلاقى (الإستبداد)..و بهذا المفهوم تصبح الثورة عمل أخلاقى و الوقوف ضدها لا أخلاقى و الوقوف على الحياد بين الثائر الساعى للتغيير و صاحب السلطة المستبد هو عمل لا أخلاقى أيضا.


الخميس، 6 سبتمبر 2012

العدالة الإجتماعية كمفهوم أخلاقى و واقع إجرائى

فى تدوينة سابقة حول الموضوع نفسه حملت عنوان "العدالة الإجتماعية" و كنا قد كتبناها بالتشارك أنا و زميلى صلاح سامح. كنا قد قدمنا تعريفا أكاديميا مألوفا للعدالة الإجتماعية بوصفها نظاما إقتصاديا يهدف الى إزالة الفوارق الشاهقة بين طبقات المجتمع.

و لكننى أريد هنا أن أعيد تعريف العدالة الإجتماعية بوصفها قيمة و بناءا أخلاقيا قبل أن تكون نظاما إقتصاديا, مثلها مثل مبدأ الشورى, فهو مبدأ أخلاقى. و هذا يطرح أمامنا مشكلة جديدة فى تقديم الخطوات الحقيقية لتحقيق العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما.

هناك إشكالية لدى الكثير من المهتمين بهذا الموضوع تكمن فى واحدية الرؤية,  فهم يرون الأزمة من جانب واحد, و بالتالى يطرحون حلولا لهذا الجانب فقط متصورين أنهم بذلك يحلون الأزمة برمتها,و لكن هذا النموذج الذى يقدمونه ليس ذو مقدرة تفسيرية عالية قادرة على تحليل الأزمة تحليلا شاملا كليا و بالتالى حلها لأنهم يتغافلون الجوانب الأخرى التى تشكل عوامل أساسية فى الأزمة.
فيقدمون لأزمة غياب العدالة الإجتماعية حلولا مثل : إعادة توزيع الثروة, أو فرض الضرائب التصاعدية, أو غيره من الحلول الإقتصادية مع إغفال أن المنظومة الأخلاقية باقية على فسادها, و على الجانب الذى يبدو مناقضا بينما هو مشابها إذ يقدم حلا واحديا أيضا مثل إصلاح المنظومة الأخلاقية فحسب, و الإدعاء أنه بإصلاحها لن يكون هناك داع لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل و هذا الحل يضعنا فى نفس الدائرة المغلقة حيث لا تحل الأزمة بشكل كلى.

نحن نرى أن هناك ثمة ترابطا بين جميع مجالات النشاط الإنسانى, هناك ترابطا بين النشاط الإقتصادى و الأخلاقى و غيرها من مجالات النشاط الإنسانى, و بالتالى عند محاولة تقديم نموذجا لحل مشكلة ما فى النشاط الإنسانى لابد من رؤية شاملة تقدم حلا أكثر شمولا للأزمة, رؤية تتضمن حلولا لجميع جوانب الأزمة دون إغفال لجانب معين.

فالقول بأن إعادة توزيع الثروة أو فرض ضرائب تصاعدية أو غيرها  من الحلول الإقتصادية ستكون كافية وحدها لحل مشكلة غياب العدالة الإجتماعية فى المجتمع, هو تصور قاصر, فبقاء منظومة القيم الأخلاقية على فسادها و تعفنها يهدد بالعودة (السريعة) الى التفاوت و الظلم الإجتماعى. و هذا النموذج يتوازى مع نموذج آخر يطرح إصلاح منظومة القيم الأخلاقية فى المجتمع كحل نهائى لأزمة التفاوت الشاهق بين طبقات المجتمع.
و النموذجين السابقين قدرتهما التفسيرية منخفضة بعض الشئ إذ أنها واحدية, بمعنى أنها ترى المشكلة من جانب واحد و تقدم حلولا عديدة لهذا الجانب فحسب, فلا تحل المشكلة.

ما أريد الوصول اليه هو أن إشكالية غياب العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما هى إشكالية ذات جوانب متعددة و بالاستناد الى ذلك لا يمكن حلها وفقا لنموذج واحدى الرؤية,لن تحل بإعادة توزيع الثروة فحسب مع بقاء المنظومة الإخلاقية على فسادها و تعفنها تكاد تعصف بالمجتمع,و لن تحل بإصلاح المنظومة الأخلاقية دون إعادة توزيع عادل للثروة, لن تحل برؤية واحدية, بل لابد من طرح حلولا تشمل جميع جوانب القضية.

و سأحاول فى تدوينة لاحقة أن أبين الوحدة ثنائية القطب لمفهوم العدالة الإجتماعية فى الإسلام.

الاثنين، 27 أغسطس 2012

الأتباع و السادة و الهراطقة

يوجد ثلاثة أنواع من البشر , أو هكذا أحاول - محاولة قد تصيب أو تخطئ - أن أصفنهم فى هذه التدوينة, النوع الأول أطلق عليه هنا إسم "الأتباع" أو "العبيد" , أما النوع الثانى فهم "السادة" من ملوك و سلاطين و أمراء و رؤساء و أصحاب الجاه و النفوذ, أما النوع الثالث فهم - كما تصفهم كلا من السلطة و أتباعها - "الهراطقة" أولئك الأشقياء الملاعين المتمردين الثائرين.
يوجد نوع من البشر يقدسون الأنظمة الحاكمة, يعشقون النظام و التنظيم الخارجى الشديد, ينظرون للحاكم على أنه مالك رقابهم, و ملجأهم لحظة الضعف, و مجيبهم و منجيهم و مخلصهم , و مانحهم قوت يومهم, و هو الذى بيده حريتهم , يمنحها إليهم عندما يشاء و يسلبها منهم وقتما شاء, قد يركعون أمام السلطان طلبا لمنحته و رضاءه , يحبون دائما أن يتلقوا الثناء من رؤسائهم , فهم يمجدونهم , أولئك الناس يعشقون التنظيم الخارجى الحديدى, تجدهم يفضلون السكن فى الأماكن ذات المنازل المتراصة بشكل منظم ذات الواجهات المتماثلة , إنهم يعشقون التماثل, يريدون أن يكون التنظيم الإجتماعى على أشده , و يبجلون الرقابة , يعملون كالآلات و يتلقون الأوامر كالجنود لا يعصون للحاكم أمرا, إنهم يمجدون الأشخاص و يعبدون الزعماء, و الأفكار التى يخرج بها الزعماء هى - بدون تفكير - أبدع ما أنتجه العقل البشرى !!
إنهم ينفذون كل ما يلقى إليهم من الأعلى, و هم كالنمل أو التحل, ذلك التنظيم الخارجى الحديدى, و فى مجتمع كهذا عندما يظهر عضو مهرطق يهدد أمن المجتمع و سلامة نظامه, وجب بتره و إقصاءه من المجتمع, إما عن طريق عزله فى السجون, أو التخلص منه نهائيا!
أولئك عشاق العبودية ينفون عن الإنسان جوهر إنسانيته, فهم ينفون عنه كونه حرا مسؤولا, بل إنه مجرد عضو فى المجتمع له وظيفة معينة عليه تأديتها دون مماطلة أو معارضة. تلك النوعية من البشر تتمتع بعقلية العبيد أو الأتباع, إنهم ببساطة يحبون أن يكونوا أتباعا لسيد ما, سواء أكان ذلك السيد شخصا أو فكرة, و هؤلاء العبيد يعشقهم النوع الثانى من البشر.

مثلما يحب العبيد أن يكونوا مسودين, يعشق السادة أن يتحكموا فى أتباعهم’ هؤلاء يعشقون العبودية و هؤلاء يعشقون السيادة, الأتباع هم من يعطوا السادة الحكام الأماجد شرعية وجودهم, إنهم يتكاملان كأنهم أجزاء من كل واحد, الأتباع و السادة, الين و اليانغ, الزوج المتوازن.
و بتلك الأفكار التى تعشش فى أدمغة الأتباع فإنهم هم وحدهم من يكفلون للسادة شرعية البقاء, الأتباع يتصورون أنهم بدون السادة حتما سيهلكون بينما تقول الحقيقة أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فالسادة غير فاعلين, وليسوا هم من بيدهم رقاب الأمم و ليسوا هم حماه الحمى, و ليسوا هم من بيدهم حرية الأفراديمنحونها و يسلبونها وفقا لأهوائهم, و هم ليسوا منزهين عن الخطأ فهم أناس عاديون لم يهبطوا من السماء بأجنحة, ولا يقومون بفعل معجزات خارقة.
إن الذين يقومون بالتفكير بهذه الطريقة هم النوع الثالث من البشر.


على الجانب المضاد للنوعين السابقين من الناس, يوجد أناس تصفهم السلطات دائما بأنهم أشقياء ملاعين مشاكسين مدمرين, تصفهم بالهراطقة, و كلمة مهرطق يعود إستخدامها ضد المعارضين الى عهد الإمبراطور الرومانى قسطنطين, و إن الكلمة اللاتينية هريتيكيوس haereticus تعنى الإختيار. لذا فإن المهرطقين هم أولئك الذين إختاروا أن يكونوا ضد السلطة, أولئك فى ثورة دائمة ضد شئ ما, يبحثون دائما عن تلك الحلقة المفقودة, أو المخفية. قد يتحدثون عن الخبز و السلام, و لكنهم سيتحثون أكثر عن الحرية و الكرامة و العدالة, إنهم يبحثون عن الإنسان, هم يعلمون أن حريتهم ليست منحة من الحاكم, ولا قوتهم كذلك, فليس الحاكم من يطعمهم, بل هم يعلمون أنهم من يطعموه أولئك الثائرون المتمردون, على عكس الأتباع, لا يحبون السلطة, و هى تقابلهم نفس المشاعر, تمقتهم, و تحاول دائما التخلص منهم.

" فى الأديان يمجد الأتباع الأشخاص و الأوثان, أما عشاق الحرية المتمردون, فيمجدون الله فحسب " 

الأحد، 22 يوليو 2012

العدالة الإجتماعية

مقال مشترك  بين عمر سليم و صلاح سامح 

مع بدء الموجة الأولى من الثورة المصرية فى يناير 2011 إرتفعت الأصوات المنادية بحق "العدالة الإجتماعية" جنبا الى جنب مع حق "الحرية" و "الكرامة الإنسانية" , تلك الحقوق الراسخة الثابتة لكل البشر , تلك الحقوق التى سلبها الطغاه , أو أوهمونا بأن تلك الحقوق الراسخة منح يمنحوننا إياها وقتما يشاؤون و يمنعوها عنّا وقتما يحلو لهم. العدالة الإجتماعية تعد هى المطلب الأهم و الأكثر إلحاحا من مطالب الثورة المصرية , و ذلك نظرا لسياسات نظام مبارك و حاشيته الرأسمالية الإحتكارية  التى إقتادت أكثر من 40% من الشعب المصرى الى المكوث تحت خط الفقر , فى حين تتركز السلطة و الثروة فى أيدى حفنة قليلة  من رجال الأعمال و كبار رجال الدولة , و إقتصرت الحقوق فى العلاج الآدمى  و المسكن الجيد و التعليم الراقى على الأقلية  , فى حين تقبع الأغلبية فى براثن الجوع و الفقر و البطالة فى إنتظار المصير المدجج بالموت , الموت الذى هو مهربهم الوحيد من بؤس الحياة , لتلك الأسباب كلها ؛ كان تحقيق العدالة الإجتماعية المطلب الأهم للجماهير خلال ثورة يناير.


العدالة الإجتماعية يمكن تعريفها بأنها نظام إقتصادى يهدف الى إزالة الفوارق الطبقية الشاهقة , و تحقيق فرص متكافئة و ظروف حياة متشابهة لجميع المواطنين , و إقامة المجتمع على أسس المساواة و التضامن الإجتماعى , العدالة الإجتماعية هى البناء الأخلاقى و السياسات الرامية الى المساواة فى الحقوق و هى فى الأساس إتجاه نحو مجتمع أكثر عدلا , تسليما بأن هناك دائما ظلم , يمكن تصنيفها كاليوتوبيا أو كخطوة فى مسيرة أكثر واقعية من اليوتوبيا.



و قد تختلف الرؤى حول مفهوم العدالة الإجتماعية و كيفية تحقيقها إختلافا كبيرا بين ألوان الطيف السياسى , فيمكن تعريف العدالة الإجتماعية من وجهة النظر الليبرالية على أنها تحقيق تكافؤ الفرص و سيادة القانون فى ظل سياسة الإنفتاح و حرية السوق , و يدعون حماية النشاط الإقتصادى من الهيمنة و الإحتكار عن طريق تدخل الدولة فيه , و يؤكدون على أن حرية إنفتاح السوق للاستثمار فى ظل وجود الدولة كمشارك هو الطريق نحو تحقيق العدالة فى التوزيع.
أما العدالة الإجتماعية من المنظور الإسلامى , أو كما يراها المفكرون الإسلاميون فتقوم على ركائز ثلاث , هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع و عبادة الله فقط فلقد وضع الله من القوانين و التشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية و بالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل و من أهم هذه القوانيين هو وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مباديء الإسلام , و الكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم أما القانون الثاني الذي وضعه الإسلام لضمان التحرر الوجداني الحقيقي فهو التكافل الاجتماعي. والتكافل الإجتماعى يقصد به إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع و مصالحه. و ليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوى من شعور الحب و المودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج و تأمين حاجته بما يحقق له حد الكفاية. و ذلك يكون عن طريق دفع الزكاة، فإن لم تكفي فيؤخذ من الأغنياء ما يكفي للفقراء , كما يرون أن تطبيق الحدود كحد السرقة سيساعد على تحقيق العدالة الإجتماعية.

إن تحقيق العدالة الإجتماعية لا يمكن أن يحدث بتعديلات فى الدساتير و القوانين , ولن تكفى إجرائات مثل وضع الحد الأدنى و الحد الأقصى للأجور و فرض الضرائب التصاعدية فقط , و إنما لن يحدث هذا الى بثورة إجتماعية حقيقية و ملكية جماعية لوسائل الإنتاج و توزيع عادل للثروة.