الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

العدالة الإجتماعية كبناء أخلاقى و واقع إجرائى (2)

أستأنف فى هذه المقالة حديثى حول قضية العدالة الإجتماعية متناولا فى هذه مفهوم العدالة الإجتماعية فى الإسلام و ستكون هذه المقالة بإذن الله بداية سلسلة مقالات عن هذا الموضوع. 
كانت الفكرة الأساسية و خلاصة المقالة السابقة حول العدالة الإجتماعية هى:- أن إشكالية غياب العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما هى إشكالية ذات جوانب متعددة و بالاستناد الى ذلك لا يمكن حلها وفقا لنموذج واحدى الرؤية, لن تحل بإعادة توزيع الثروة فحسب مع بقاء المنظومة الإخلاقية على فسادها و تعفنها تكاد تعصف بالمجتمع,و لن تحل بإصلاح المنظومة الأخلاقية دون إعادة توزيع عادل للثروة, لن تحل برؤية واحدية, بل لابد من طرح حلولا تشمل جميع جوانب القضية. و هذا المفهوم يمثل القاعدة الأساسية للعدالة الإجتماعية فى الإسلام, فهى وحدة ثنائية القطب.
و الإسلام لكونه نظام و منهاج حياة متكامل يعنَى بتنظيم شئون حياة البشر فى كل المجالات و منها بالطبع المجال الإقتصادى, و لكنه يبين القيم و الأطر الحاكمة لهذا المجال تاركاً التفريعات و التفاصيل للبشر ينظمونها مثلما يتوافق و بيئتهم لأن الحياة الإقتصادية بطبيعتها متغيرة. و هو لا يسير فى الإتجاه اليمينى الرأسمالى ولا الإتجاه اليسارى الإشتراكى, و إنما يشق طريقه الخاص.
و يخلق الإسلام علاقة توازن بين الفرد و المجتمع فهو الذى أنشا فى المدينة المنورة منذ مئات السنين مجتمعا قائما على عدل إجتماعى راسخ, مجتمع ما كان أحدا ليحلم به.

العدالة الإجتماعية فى الإسلام بناء أخلاقى و إجراءات واقعية.
أما البناء الأخلاقى فيقوم على ركيزة أساسية هى التحرر الوجدانى الكامل, أى تحرر النفس من الخضوع, فقد وضع الله من التشريعات و المبادئ ما يكفل للإنسان إحتياجاته الأساسية و أهم تلك المبادئ هو المساواة الإنسانية الكاملة حيث لا تفرقة بين البشر, حيث لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى, حيث الناس سواسية كأسنان المشط. و المبدأ الثانى هو مبدأ التكافل الإجتماعى و هو إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض, فكل فرد عليه مسؤولية تجاه المجتمع "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته" و ليس هذا التكافل هو مجرد الشعور المعنوى الطيب الحسن و إنما أعمال و أفعال واقعية.
و الإسلام برؤيته المتكاملة يضع على رأس أولوياته قضية إصلاح المنظومة الأخلاقية ; فبقائها على فسادها يستحيل معه تحقق أى شكل من أشكال العدل الإجتماعى, و إن تحقق فهو مجرد صورة زائفة مشوهة..سرعان ما تزول!!

كما يضع القرآن بعض الأطر الحاكمة التى تحكم المجال الإقتصادى و تشكل ركائزا لتحقيق العدالة الإجتماعية, و إن كان لا يتطرق الى ما دونها من التفريعات الجزئية و يتركها لإجتهاد العقل الإنسانى.
و من هذه الأطر و القواعد مبدأ الزكاة, تلك الفريضة الإسلامية التى يصورها البعض فى صورة المنة أو العطف..بينما هى ليست كذلك على الإطلاق, إنها حق و فريضة إسلامية و ركن من أركان الإسلام..هى حق الفقراء فى أموال الأغنياء, ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يمكن للدولة المسلمة أن تأخذ ما تشاء من أموال الأغنياء عن طريق فرض الضرائب التصاعدية من أجل تحقيق التوزيع العادل للثروة.
المبدأ الثانى هو تحريم الفائدة على رأس المال (الربا) فهو محرم بنص قرآنى صريح و توعد الله آكلوا الربا بعذاب شديد "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
كما يحرم الإسلام الإحتكار, و يفرض العمل كقيمة أساسية فى حياة كل فرد.
و يصون الإسلام حق الملكية الشخصية و لكنها ليست مطلقة, الموارد العامة على سبيل المثال ليست قابلة لأن تكون ملكا لأشخاص..و الإسلام يقوض تلك الملكية الشخصية بالواجبات الإجتماعية "كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"

و بالطبع تختلف نظرة الإسلام تماما عن فكرة السوق الحر المتجرد من أى قيمة أو مرجعية أخلاقية, فالسوق الحر معنى بالربح و خفض التكاليف الإنتاجية قبل كل شئ, و فى إطار السوق الحر يصبح كل ما يربح سلعة بداية من الأطعمة الفاسدة مرورا بالمواد الإباحية وصولا الى الأسلحة الفتاكة!!
أما الإسلام فيرفض هذه الرؤية المادية النفعية بشكل قطعى, فالإنسان هو المعنى و ليس الربح, و لذا يمكن إعتباره أخلاقيات إقتصادية و مبادئ أخلاقية أكثر من كونه نظاما إقتصاديا.

ختاما: إنها لمن حكمة الله سبحانه و تعالى و رحمته أنه وضع لنا قواعد و أطر رئيسية و ترك لنا مجالا فسيحا يجول فيه الفكر البشرى ليبدع و ينتج.
و لذا فالمسلمين يجب أن يتطلعوا الى نظام إقتصادى كفْ بمرجعية أخلاقية ثابتة معنى بالإنسان قبل الربح..يحقق العدالة الإجتماعية و يخلق التوازن الإجتماعى.

و للحديث بقية.

الخميس، 4 أكتوبر 2012

نهاية الإنسان

أثناء دفاعه عن نفسه قال أدولف أيخمان (مسؤول كبير بالرايخ الثالث و ضابط بالقوات الخاصة الألمانية) أنه مواطن مخلص, يدين بالولاء المطلق للوطن (ألمانيا النازية) و أنه لم يقم بشئ سوى تنفيذ الأوامر التى تلقاها, و قد نفذها بإتقان شديد و على أكمل وجه. 
و ذلك مثال واضح للعقلية البيروقراطية الرشيدة التى تنفذ ما تؤمر به دون تفكير فى أى شئ, لأن من يفكر قد يخطئ, أما من ينفذ دون تفكير فتكون نسبة خطأه ضئيلة و بالتالى لن يعرض نفسه للعقاب, و بهذا أصبح الموظف البيروقراطى غير مسؤول عما قد ينتج من كوارث كنتيجة لوظيفته التى أداها, فهو مجرد حلقة واحدة و وظيفته حلقة واحدة فى سلسلة طويلة تنتهى بالهدف الذى وضعته الدولة..و الذى قد لا تكون كل حلقة منفردة على علم به.
 تم ترشيد الإنسان فى هذا الإطار النفعى و صياغته ببساطة كموظف بيروقراطى ينفذ دون السؤال عن الغاية أو كمنتج دون السؤال عن هدف الإنتاج أو كمستهلك غارق فى المنظومة الإستهلاكية التى لا تكترث بأية قيم, فكل ما يُربح يدخل فى إطار المُنتجات بما فى ذلك الأسلحة و الأطعمة الفاسدة و المواد الإباحية التى لا يتم التعامل معها من منظور إنسانى أخلاقى و إنما من منظور إقتصادى نفعى بحت منفصل عن أى قيمة و أى غاية, و ذلك الاقتصاد المنفصل عن الإنسان يتجسد فى السوق الحر مثلما يتجسد فى سيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج, ففى السوق الحر يوجد كل ما هو مٌربح إقتصاديا حتى و إن كان مدمر إنسانيا, و بسيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج تصبح (مصلحة الدولة العليا) - ذلك المصطلح الفضفاض - هى المطلق الوحيد, و يصبح الإنتاج فى حد ذاته غاية.
و قد سارت عمليات الترشيد (و الترشيد هو صياغة الإنسان و الواقع فى إطار الرؤى المادية) سارت فى طريقين متوازيين يوصلان فى النهاية الى نفس الهدف, و لكن السير فى طريق واحد منهم دون الآخر يجعل الوصول للهدف أمرا مستعصيا, الطريقان هما الترشيد من الخارج و الترشيد من الداخل.

الترشيد من الخارج قامت به مؤسسات مثل الجيش و جهاز الشرطة و المخابرات و الشرطة السرية و غيرها من أجهزة القمع الخارجية الأخرى و من خلال رؤية الإنسان على أنه مجرد مادة إستعمالية تتم عمليات الإنتاج الكثيف فى المصانع على الرغم مما قد يواجه الإنسان من إنهاك, و ما قد يضعف صحته مثل عوادم المصانع, فليس هذا هو المهم, بل الأهمية الكبرى للعملية الإنتاجية بعيدا عن أى قيمة إنسانية’ و بهذا يتم تدمير الإنسان تماما من الخارج.

و لكن هل هذا كاف؟! هل اكتفت المنظومة بالتحكم الخارجى فى الإنسان؟
بالطبع لا, و السبب هو أن ذلك التدمير الخارجى يمكن أن يشعر به الإنسان فيقاومه بكل ما أوتى من قوة, لابد إذاً من عملية ترشيد على نحو مغاير, لا يشعر بها الإنسان فلا يقاومها. عملية ترشيد تحدث بالرغم عنه, كان لابد من التدمير من الداخل, تدمير لا يشعر به الإنسان ولا يدركه.
حدث هذا الترشيد عن طريق المؤسسات الإعلامية و التربوية و إعادة صياغة المناهج الدراسية لتعبر عن رؤية الدولة, و بهذا لم تعد الدولة بحاجة الى أجهزة تستخدم القوة الغاشمة لإرغام الشعب على فعل شئ لا يريده, فالشعب بعد هذا الترشيد الداخلى و تزييف الحقائق سيفعل نفس الشئ و لكن سيكون هذا نابعا من إرادته.
و يقول على عزت بيجوفيتش: "إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة و الراديو و التلفزيون, هى فى الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير. فمن ناحية يوجد مكتب المحررين و هو مكون من عدد من الناس عملهم هو إنتاج البرامج, و على الناحية الأخرى ملايين المشاهدين السلبيين."
و هذا الترشيد المنهجى يستوعب الإنسان تماما داخل المنظومة, كما يتم التدمير الداخلى عن طريق إستيعاب الإنسان داخل المنظومة الإستهلاكية بحركتها الدائمة المتجردة من كل غاية و كل قيمة.
و هكذا فإن كل ما يقوم به الإنسان هو أن ينتج كثيرا ثم يستهلك كثيرا ثم يموت.

و على الرغم من أن كلا الطريقين فى غاية الأهمية من أجل التدمير الكامل للإنسان, إلا أن الطريق الثانى (الترشيد من الداخل) يمتاز بأنه لا يمكن أن يشعر به الإنسان أو يصعب ذلك, كما أن مقاومته أمر فى غاية الصعوبة, فالمقاوم كأنه يقف أمام تيار متدفقا..قاتلا..فيصل الإنسان الى نهايته.
و لكن صعوبة الأمر لا تعنى أن الإنسان يجب أن يذعن و يستسلم للتيار.عليه أن يحاول ألا يتم إستيعابه داخل المنظومة, عليه أن يقاوم تلك العملية, عليه أن يؤمن بأنه ليس مجرد مادة إستعمالية توظفها الدولة فيما تشاء...عليه أن يجاهد عملية تدميره...وذلك الجهاد الأكبر.