السبت، 22 ديسمبر 2012

الإنحياز إلى العبث

كنت قد ابتعدت منذ فترة ليست بالقصيرة عن الخوض فى الأحداث السياسية على مدونتى الخاصة و إكتفيت بالمناقشات السياسية و الحوار على مواقع التواصل الإجتماعى. و لكن فى خضم الأحداث السريعة و المتلاحقة التى تمر بها مصر قررت أن أبين رأيى على المدونة فيما يحدث الآن فى مصر, فى مقال ليس بالتحليلى و لكنه تعليق على الأحداث, تلك الأحداث التى تزداد عبثيتها يوما بعد يوم, ينمو العبث و يتشعب و ينمى ليهيمن على كل مشهد فى الأحداث الحالية التى تحتاج إلى تثوير حقيقى لفهم كنهها.
 و يصل العبث إلى ذؤابته بإعلان تحالف القوى العلمانية مع قوى النظام السابق و رجال أعماله عدم قبوله بالنتيجة التى أسفرت عنها العملية الديموقراطية على الرغم من مشاركته فى العملية من بدايتها, و هو بذلك يشبه فريق كرة القدم الذى يخوض مباراة ما و يرتضى لإدارتها حكما بعينه - و هو فى حالتنا الصندوق - ثم يرفض الإعتراف بهزيمته و يتحجج بحجج واهية على غرار ظلم الحكم أو عدم ملائمة الجو أو سوء أرضية الملعب. و يظل هذا الفريق المهزوم يوهم نفسه بأن تلك هى أسباب الهزيمة لأنه لا يريد أن يدرك أو يقتنع أن منافسه يفوقه مهارة و خبرة فى هذا المضمار, و أن الإشكالية الحقيقية تكمن فيه ذاته; كحال القوى المدنية فى بلادنا التى لا تريد أن تدرك و تعترف بأنه لا يمكن بأى حال من الأحوال و تحت أى ظرف من الظروف أن تتساوى ثمار عمل عشرات السنين فى الشارع بين الجماهير مع ثمار عمل أشهر معدودة!
الشعب ارتضى أن يكون الصندوق هو الحكم فى تلك المبارة و هو لن يقبل أطروحة رفض نتائجه و الإنقلاب عليها لأنه يدرك خطورة إذكاء الفتنة مجددا. فالإعتراض على الحكم المرتضى مسبقا يعنى خوض الطرفان المتصارعان لمباريات بلا حكام, و هى حتميا مباريات بلا فائز, سيهلك فيها الطرفان كليهما. أو أن يكون الجيش هو الحكم (غير العادل على الإطلاق) لفترة زمنية لا يعلم مداها إلى الله !!

فى أعقاب إعلان نتيجة المرحلة الأولى من الإستفتاء على الدستور و التى جائت ب(57% نعم مقابل 43% لا) تفاخرت العديد من القوى الثورية بنسبة من رفضوا الدستور معتبرين رفضهم برهانا على ثوريتهم و إنحيازهم لمعسكر الثورة, بل و عد البعض الرفض برهانا على نفور الجماهير من المشروع الإخوانى برمته و ظن كل فصيل (حيث تتكون المعارضة من عدة فصائل غير متجانسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) أن الرافضين إنحازوا لمشروعه. و فى هذه الرؤى مغالطات عدة, فأولا واهم هو ذلك الذى يظن أن كل الرافضين منحازين لمعسكر الثورة, أو أن الرفض برهانا على الإيمان بالثورة و أهدافها, فلا يمكن أن نغفل عن كون نسبة كبيرة من الرافضين هم ممن أعطوا أصواتهم للمجرم أحمد شفيق فى إنتخابات الرئاسة 2012 , بالإضافة إلى كثير من الأقباط الذين صوتوا بناءا على توجيهات من الكنيسة, و لكننا فى الوقت ذاته لا يجب أن ننكر أن عددا ليس بالقليل ممن صوتوا بعدم موافقتهم على مشروع الدستور هم ممن أعطوا صوتهم لمحمد مرسى فى إنتخابات الرئاسة و لكن أعيتهم و خيبت آمالهم تصرفات الرئيس محمد مرسى وجماعته فى الأشهر الماضية و هى تصرفات كثير منها طفولى غير مقبول, بالإضافة إلى بعض من يرضون عن مشروع الدستور ولا تزعجهم مواد العسكر فيه ولا غيرها و لكنهم تصيبهم حالة من الهلع لدى سماع سيرة (التيار الإسلامى), هم ليسوا بمعارضين للمرجعية الإسلامية أو للهوية الإسلامية أو بمعنى أدق لتصورهم هم عن تلك المرجعية, و لكن مخيلاتهم تصور لهم مشاهدا لرجال مقطوعى الأيدى و آخرين مبتورى الأيدى و الأرجل تغص بهم الشوارع, و كأن البلد ليس فيها إلا السارقين و المفسدين!! و يعضد الإعلام على تنمية تلك التصورات فى أدمغتهم عن طريق تصوير كتاب الشريعة الكبير على أنه ليس فيه إلا صفحة الحدود وحدها!

لا أريد أن يفهم من كلامى تنزيها لفريق (نعم) بجملته, أو أن جميع من صوتوا بالموافقة ثوارا أو منحازين لمعسكر الثورة, ولا يمكن إنكار أن جمعا كبيرا منهم صوت بالموافقة واهما أنه يختار حكم الشريعة الإسلامية أو أنه يصوت بالموافقة على ((أفضل دساتير العالم)) - مثلما قيل - دون أن يقرأ من ذلك الدستور حرفا, و الكثيرون صوتوا بناءا على توجيهات فوقية مثلهم مثل من صوت بناءا على توجيهات فوقية من الأقباط.
و بهذا يتضح لنا أن الكثيرين سواء فى معسكر (نعم) أو معسكر (لا) لم يكونوا يصوتون على الدستور و مواده بل كانوا يصوتون على (القوى الإسلامية) قبولا أو رفضا . . و التعميم مرفوض بالطبع فهناك من قرأ الدستور و إستحسن مواده فوافق عليه, و هناك من سائته المواد فرفضه, و لكنى أحسب أن هؤلاء يمثلون الجانب الأقل من عدد من صوتوا . . . و الله أعلم.

الدستور ليس بداية مسار التغيير كما أنه ليس نهايته, فالمسار ما زال طويلا, و إعتمادنا فى التغيير لا يمكن أن يكون على الدستور أو أى من آليات التغيير من الأعلى, فالقاعدة الثابتة فى تاريخ النشاط الإنسانى أن التغيير الحقيقى يبدأ من الأسفل, من حيث تكمن الإشكالية. و أى تغيير يتم فرضه من الأعلى هو مجرد غطاء ظاهرى سطحى زائف للباطن الذى لم يتغير.
و عندما أقول أنى لو كان لى حق التصويت لقلت (نعم) فهذا ليس من منطلق كونه دستور الثورة أو دستور إسلامى, فأنا أوقن أن هذا الدستور ليس بالدستور المأمول الذى يعبر عن أحلام الملايين الذين خرجوا يطالبون بالحرية و العدالة و الكرامة, و لست أرى أن هذا الدستور دستورا إسلاميا يطبق الشريعة الإسلامية. و كثير من مواده أختلف معها و على رأسها مواد العسكر. و لكنى أرى أنه يمكن الضغط على البرلمان لتعديل المواد المختلف عليها, أما التصويت بلا فكان سيدخلنا فى حلقة مفرغة, إذ ستنتخب الجماهير جمعية تأسيسية جديدة تأتى مجددا بأغلبية إسلامية فتحتج القوى المدنية و تنزل الشارع من جديد ويعاد إنتاج الصراع ربما بشكل أكثر عنفا! 
كما أنى أدرك أنه لا يوجد شيئا يسمى التوافق فى السياسة, فلا توجد دولة قامت بالتوافق و لا دستور أقر بالتوافق إلا فى حالات نادرة للغاية.
هذا الدستور نتاج ل(محاولة) الإستفاقة من الغفوة العقلية و التحرر من الإستعمار العقلى الذان خلفهما النظام السابق, نتاج للمحاولة و لكنه ليس نتاج للإستفاقة و لا للتحرر لأنهما لم يحدثا بعد, و عندما ننجح بعون الله فى الوصول إلى تلك المرحلة فستكون النتائج مختلفة بالكلية! هذا إذاً طريقنا, العمل على (تثوير) العقول و تحريرها من رواسب التنشئة و قيود التبعية.
أما عن المشهد الحالى فإنى أرفض بأى شكل من الأشكال الإعتراض على نتيجة الإستفتاء - إلا فى حالة ثبوت حالات تزوير منهجى يؤثر على النتيجة العامة - فهذا كما أشرت سيجرفنا إلى خوض مباريات بلا حكام أو سيرجعنا إلى غياهيب الحكم العسكرى مرة أخرى . . . بالإعتراض على نتائج الإستفتاء نكون قد إنحزنا مجددا إلى العبث الذى ننحاز إليه منذ عامان !!

الخميس، 13 ديسمبر 2012

من هنا نبدأ

دائما ما كان يؤرقنى هذا السؤال و يقض مضجعى, فهذا السؤال كان بمثابة الحائط - الذى لا نهاية له عرضا و طولا - الذى أصطدم به عقب كل محاولة للتفكير فى إجابة سؤال آخر هو (ما العمل؟) يقودنى هذا مباشرة للتفكير فى سؤال من أين تُبدأ عملية الإصلاح؟ و من المنوط به أن يبدأها؟!
إن الخطوة السابقة على هذا السؤال هى طرح الإشكالية طرحاً كاملاً و دراستها دراسةً كليةً دقيقةً و تناول كل جوانبها بالتحليل الموضوعى و إستقصاء النتائج منها و العمل على إيجاد الرابط بينها و بين غيرها لتكوين صورة شاملة كلية و هى خطوة أحسب أن المجهود الذى بُذِل فيها مجهودا عظيما, تترتب على تلك الخطوة خطوة طرح الحلول الموضوعية لجميع الجوانب التى تمت دراستها و تناولها بالتحليل الدقيق, و هى خطوة أحسب أيضا أنها قد بٌذِل فيها مجهودا كبيرا, و كلما فكرت فى هذه الأمور باغتنى سؤال من أين تُبدأ عملية الإصلاح؟
بالطبع إنها يجب أن تكون حيث يوجد الخلل, فى أفكار المجتمع و تصوراته.

لقد كانت إحدى أهداف الغزو الثقافى و الإستعمار الفكرى الأساسية تصحير التربة الفكرية و الثقافية فلا تخرج نبتة جديدة فى هذه الأرض إلا و تكون نبتة مسرطنة أو مشوهة, ولا ينجو من ذلك التشويه و السرطنة إلا ما رحم ربى, و لا تبقى و لا تنمى إلا الأفكار الغاربة المُستعمِرة التى تحقق غايات المُستعمِر فى طمس هوية الشعب المُستعمَر و تغيير أفكاره و قيمه و أخلاقياته و إحتلال عقله و وجدانه. و جعلها تتسلل إلى عقله عبر النخب الحاكمة أو المناهج الدراسية أو الأجهزة الإعلامية  أو الأقلام و العقول المؤيدة للمُستعمِر الواقفة فى صفه العاملة على تحقيق أهدافه, فتقتحم تلك الأفكار العقول عن طريق المجلات و الصحف و الكتب و المسلسلات و الأفلام!
و بذلك ينجح الغزو الثقافى فى الوصول إلى هدفه فى إخلاء المناخ الفكرى أو سرطنته أو تشويهه!
عقود من هذا الركود الثقافى و تصحر التربة الفكرية و تراكم رواسب التنشئة فى ظلهما كانت بدون أدنى شك أحد أهم العوامل المؤدية لحالة التأخر الحضارى و الهزيمة الواقعة على الأمة.

من أين يجب أن تُبدأ إذاً عملية الإصلاح و من المنوط به أن يقوم بتلك العملية المعقدة؟ و ما آلياتها؟ و متى تبدأ؟ .. ظلت تلك الأسئلة تجول بخاطرى و تستحوذ على قدرا عظيما من تفكيرى إلى أن وصلت إلى ما أحسبه جوابا لها ..
فى البدء إن تغيير أو إصلاح الأوضاع لا يمكن أن يكون مجرد تبديل الأنظمة و الحكومات و الدساتير و القوانين, فذاك عمل يسير إذا أرادته الشعوب, ولكنه لا يعد تغييرا حقيقيا للأوضاع. فطريق الإصلاح لا يمكن أن يكون أبداً من أعلى, إن طريق الإستيلاء على السلطة بأية وسيلة ثم البدء فى عملية الإصلاح هو طريق مسدود..واهم من يظنه طريق الصواب, ففساد السلطة ليس إلا عرضا للمرض الحقيقى الذى هو فساد الأنفس و إستعمار الألباب, و البدء من أعلى يتغافل حقيقة أن المشكلة الحقيقية موجودة بالأسفل, موجودة فى العقول و الأفكار و التصورات, أما ذلك الفساد بالأعلى إنما هو عرضا لفساد الأفكار سيزول بزواله. و لكن فساد الأفكار لن يزول بزوال فساد السلطة.
إذا فالطريق لا يبدأ بالإستيلاء على السلطة.

إننا يجب أن نبدأ من حيث تبدأ عملية الإستعمار العقلى للإنسان, من المدرسة, المدرسة تعد الخلية الأولى التى تبدأ فيها الأفكار الغاربة فى التسلل إلى العقول, عبر المناهج و المقررات الدراسية  و عبر منهاج و أسلوب التدريس, فالنخب الحاكمة تعمد إلى تلوين المناهج بم يتوافق مع رؤى كل نخبة, و تعمد إلى أدلجة التاريخ و تزييفه أو لى عنقه فى نصوص المقررات, بل و حتى تُؤدلج العلوم الطبيعية!! و كل ذلك ليتشرب النشئ أفكار النخب و أيدولوجياتها!! ذلك بالإضافة إلى أسلوب التعليم العقيم الذى يكون الطالب فيه مجرد متلق سلبى غير فاعل شبه غائب عن المعادلة التعليمية برمتها!!


عملية الإصلاح و التغيير يجب أن تبدأ من ذلك المكان, من حيث تبدأ عملية الإستعمار العقلى, عن طريق التوعية و محاولة صناعة جيل متحرر من قيود الثقافة الغربية و المشاركة فى جهاد الغزو الثقافى بشتى السبل, ليكون هذا الجيل قائد النهضة و صانع الحضارة عن طريق الأفكار التى تزرع فى عقله فتنبت فى المستقبل أعمالا و أفعالا..
و يمكن البدء بإقامة الندوات التوعوية و عقد الحلقات النقاشية و عرض الأفلام الوثائقية على طلاب المدرسة, و تلك مساهمة عظيمة القدر - حتى و إن كانت ضئيلة على المستوى الكمى - فى جهاد الغزو الثقافى و أدواته و العودة إلى هوية الأمة الحقيقية و وضع أول قدم على طريق الإقلاع الحضارى.