أثناء دفاعه عن نفسه قال أدولف أيخمان (مسؤول كبير بالرايخ الثالث و ضابط بالقوات الخاصة الألمانية) أنه مواطن مخلص, يدين بالولاء المطلق للوطن (ألمانيا النازية) و أنه لم يقم بشئ سوى تنفيذ الأوامر التى تلقاها, و قد نفذها بإتقان شديد و على أكمل وجه.
و ذلك مثال واضح للعقلية البيروقراطية الرشيدة التى تنفذ ما تؤمر به دون تفكير فى أى شئ, لأن من يفكر قد يخطئ, أما من ينفذ دون تفكير فتكون نسبة خطأه ضئيلة و بالتالى لن يعرض نفسه للعقاب, و بهذا أصبح الموظف البيروقراطى غير مسؤول عما قد ينتج من كوارث كنتيجة لوظيفته التى أداها, فهو مجرد حلقة واحدة و وظيفته حلقة واحدة فى سلسلة طويلة تنتهى بالهدف الذى وضعته الدولة..و الذى قد لا تكون كل حلقة منفردة على علم به.
تم ترشيد الإنسان فى هذا الإطار النفعى و صياغته ببساطة كموظف بيروقراطى ينفذ دون السؤال عن الغاية أو كمنتج دون السؤال عن هدف الإنتاج أو كمستهلك غارق فى المنظومة الإستهلاكية التى لا تكترث بأية قيم, فكل ما يُربح يدخل فى إطار المُنتجات بما فى ذلك الأسلحة و الأطعمة الفاسدة و المواد الإباحية التى لا يتم التعامل معها من منظور إنسانى أخلاقى و إنما من منظور إقتصادى نفعى بحت منفصل عن أى قيمة و أى غاية, و ذلك الاقتصاد المنفصل عن الإنسان يتجسد فى السوق الحر مثلما يتجسد فى سيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج, ففى السوق الحر يوجد كل ما هو مٌربح إقتصاديا حتى و إن كان مدمر إنسانيا, و بسيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج تصبح (مصلحة الدولة العليا) - ذلك المصطلح الفضفاض - هى المطلق الوحيد, و يصبح الإنتاج فى حد ذاته غاية.
و قد سارت عمليات الترشيد (و الترشيد هو صياغة الإنسان و الواقع فى إطار الرؤى المادية) سارت فى طريقين متوازيين يوصلان فى النهاية الى نفس الهدف, و لكن السير فى طريق واحد منهم دون الآخر يجعل الوصول للهدف أمرا مستعصيا, الطريقان هما الترشيد من الخارج و الترشيد من الداخل.
الترشيد من الخارج قامت به مؤسسات مثل الجيش و جهاز الشرطة و المخابرات و الشرطة السرية و غيرها من أجهزة القمع الخارجية الأخرى و من خلال رؤية الإنسان على أنه مجرد مادة إستعمالية تتم عمليات الإنتاج الكثيف فى المصانع على الرغم مما قد يواجه الإنسان من إنهاك, و ما قد يضعف صحته مثل عوادم المصانع, فليس هذا هو المهم, بل الأهمية الكبرى للعملية الإنتاجية بعيدا عن أى قيمة إنسانية’ و بهذا يتم تدمير الإنسان تماما من الخارج.
و لكن هل هذا كاف؟! هل اكتفت المنظومة بالتحكم الخارجى فى الإنسان؟
بالطبع لا, و السبب هو أن ذلك التدمير الخارجى يمكن أن يشعر به الإنسان فيقاومه بكل ما أوتى من قوة, لابد إذاً من عملية ترشيد على نحو مغاير, لا يشعر بها الإنسان فلا يقاومها. عملية ترشيد تحدث بالرغم عنه, كان لابد من التدمير من الداخل, تدمير لا يشعر به الإنسان ولا يدركه.
بالطبع لا, و السبب هو أن ذلك التدمير الخارجى يمكن أن يشعر به الإنسان فيقاومه بكل ما أوتى من قوة, لابد إذاً من عملية ترشيد على نحو مغاير, لا يشعر بها الإنسان فلا يقاومها. عملية ترشيد تحدث بالرغم عنه, كان لابد من التدمير من الداخل, تدمير لا يشعر به الإنسان ولا يدركه.
حدث هذا الترشيد عن طريق المؤسسات الإعلامية و التربوية و إعادة صياغة المناهج الدراسية لتعبر عن رؤية الدولة, و بهذا لم تعد الدولة بحاجة الى أجهزة تستخدم القوة الغاشمة لإرغام الشعب على فعل شئ لا يريده, فالشعب بعد هذا الترشيد الداخلى و تزييف الحقائق سيفعل نفس الشئ و لكن سيكون هذا نابعا من إرادته.
و يقول على عزت بيجوفيتش: "إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة و الراديو و التلفزيون, هى فى الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير. فمن ناحية يوجد مكتب المحررين و هو مكون من عدد من الناس عملهم هو إنتاج البرامج, و على الناحية الأخرى ملايين المشاهدين السلبيين."
و هذا الترشيد المنهجى يستوعب الإنسان تماما داخل المنظومة, كما يتم التدمير الداخلى عن طريق إستيعاب الإنسان داخل المنظومة الإستهلاكية بحركتها الدائمة المتجردة من كل غاية و كل قيمة.
و هكذا فإن كل ما يقوم به الإنسان هو أن ينتج كثيرا ثم يستهلك كثيرا ثم يموت.
و على الرغم من أن كلا الطريقين فى غاية الأهمية من أجل التدمير الكامل للإنسان, إلا أن الطريق الثانى (الترشيد من الداخل) يمتاز بأنه لا يمكن أن يشعر به الإنسان أو يصعب ذلك, كما أن مقاومته أمر فى غاية الصعوبة, فالمقاوم كأنه يقف أمام تيار متدفقا..قاتلا..فيصل الإنسان الى نهايته.
و لكن صعوبة الأمر لا تعنى أن الإنسان يجب أن يذعن و يستسلم للتيار.عليه أن يحاول ألا يتم إستيعابه داخل المنظومة, عليه أن يقاوم تلك العملية, عليه أن يؤمن بأنه ليس مجرد مادة إستعمالية توظفها الدولة فيما تشاء...عليه أن يجاهد عملية تدميره...وذلك الجهاد الأكبر.
و هل تعتقد أن الدين يساوى عملية الترسيد الداخلية للأنسان؟؟ و لكن معظم الناس ليس بمقدورهم الثورة على الدين و تحديه بشكل مباشر
ردحذفاولا احب ان احييك علي هذا المقال الرائع ولكن اري انك لم تذكر العامل الاساسي الذي يخرج الناس من الترشيد الداخلي اوالخارجي وهو ان يكون للناس مرجعيه عليا يقاس عليها الاعمال نفعل او لانفعل ونفعل لماذا ولا نفعل لماذا وهذة المرجعيه هي الله حرام ام حلال ذلك يخرجنا من الاشكال تماما لاني الحكومة سواء باجهزتها الفمعية او اعلامها لن يؤثر بي لان المقياس في افعالي الله وليس سواه
ردحذفأنا أتفق معك تماما فى رأيك حول المرجعية العليا (الله).
حذف