الخميس، 28 مارس 2013

زهرة

وقف شامخا فى وسط الجزيرة الكبيرة ..

ينظر لكل شئ من عل , فكل شئ هنا دونه .. قوة و حجما و عظمة و جلالا و شموخا و صمودا ..

كم من عابر أو مدبر معد حاولوا دك صخوره أو هدمه أو شقه ..
إلا أن كبرياؤه  كان يأبى الإنبطاح و الهزيمة .. و ينظر من عل

جاؤوه جماعات و فرادى .. و أعدوا ما استطاعوا .. إلا أنه ظل يجندلهم و يصرعهم حتى لم يذر منهم أحدا .. يجيئ المزيد .. فيستقبلهم مقهقها .. و يواصل نسفهم

فى الماضى كان يخشاهم .. أجل .. كان يرتجف لدى رؤية جموعهم الغفيرة ..
أما الآن , فما لهم من ولى ولا ناصر و ما يجرؤ أحد على إيقافه عن البطش بهم ..

ظل هكذا .. يقهقه .. بينما يحاولون هم محاولات تبوء بالفشل المرير ..

وذات ليلة .. وجدوه متصدعا .. و فى الوسط كانت تقف زهرة أريجة فائحة الشذى ..
ترفع رأسها إلى السماء مبتسمة .. بينما تتساقط عن جبينها قطرات الندى ..

الاثنين، 25 مارس 2013

فى السماء


تبقى فى محفظته الجلدية التى ما زالت لمعتها بادية على الرغم من تهالكها بضع جنيهات بعدما دفعا إيجار الشقة الحجرة و صالة .. و عربون كنبة و كرسيين.

فنظر لها مبتسما وقال : و الآن ماذا تودين؟
ابتسمت بدورها و نظرت حدو البرج الشاهق .. : لطالما رغبت أن ألقى نظرة من فوقه.

نظر نحوه لهنيهة ثم قال : هيا إذن نحقق رغبتك.

و مشيا بخطوات سريعة إلى البرج المطل على المدينة بأكملها

‏***

-‏- هيا نهبط.

لم يرد.

-- أقول لك هيا نهبط .. عمر (و تطوح يدها أمامه منبهة)

لم يرد. كان متحجرا و عيناه مثبتتان على المشهد المبهر من أعلى البرج.

-‏- عمر!

التفت إليها فى هدوء قائلا : ماذا سيحدث لو قفزت من هنا؟

قطبت حاجبيها و لكنه واصل : لن يحدث شئ .. أليس كذلك ؟ .. ألن تشرق الشمس من المشرق كما هى ؟ و لن يخبو ضوء القمر .. و أولئك الورى ألن تستمر حياتهم كما هى؟ لن يحدث أى شئ.

-‏- بلى .. لن يخبو الضوء .. سأخبو أنا.

-‏- و ما المشكلة .. إن لحقتينى .. ستظل الشمس تشرق و سيظل القمر ينثر ضوءه و ستستمر حياة الورى كما هى.

فضحكت و ضحك ..

الأربعاء، 20 مارس 2013

غياب


ﻏﺎﻡ ﺍﻟﺠﻮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺀ أديم السماء .. ﻭ ﺗﺼﺎﻋﺪﺕ ﺍﻷﺩﺧﻨﺔ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ ﺣﺘﻰ ﺣﺠﺒﺖ ﻋﻨﺎ ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ

 ﻛﻞ ﺷﺊ ﺃﺑﻴﺾ ..

 ﺗﺼﺎﻋﺪﺕ ﺃﺻﻮﺍﺕ ﻗﺮﻉ ﺍﻟﻜﺆﻭﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﺎﺿﺪ ﺍﻟﺮﺧﺎﻣﻴﺔ .. ﺃﻭ ﺭﺑﻤﺎ ﺧﺸﺒﻴﺔ .. ﻭ ﺳﻜﺐ ﺍﻟﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﻤﺴﻠﻰ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ جعلنا ننسى ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻰ ﺍﻟﻤﺄﺳاﻮﻯ .. ﺃﻭ ﻟﻌﻠﻪ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻌﻴﻪ ﻭ ﻧﺪﺭﻛﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻨﻪ .. ﺯﺍﻭﻳﺔ ﻣﺒﻬﻤﺔ .. ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻀﺤﻰ ﺃﻗﻞ ﻣﺄﺳﺎﻭﻳﺔ .. ﺃﻭ ﺃﻛﺜﺮ ﺭﺣﻤﺔ ..

ﻭ ﺳﺒﺤﺖ .. ﻫﻤﺖ ﻓﻰ ﺗﻠﻚ البيداء البيضاء .. ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ .. ﻭ ﺧﻠﺖ ﺍﻟﻮﻫﻢ .. ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻰ .. ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻮﻫﻤﻰ .. ﻟﺴﺖ ﺃﺩﺭﻯ .. رأيت كل شئ لكنى لم أبصر شيئا ..

ﺭﺃﻳﺘﻨﻰ ﻣﻀﻐﺔ ﻻ ﺗﺪﺭﻙ ﻣﺎ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ .. ﺛﻢ ﺭﺍﻛﻀﺎ ﻓﻰ ﻓﻨﺎﺀ ﻓﺴﻴﺢ ﺩﻭﻧﻤﺎ ﺇﻛﺘﺮﺍﺙ ﺑﺸﺊ ﻛﺄﻧﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﺃﺻﺒﻮ ..

ﺛﻢ ﺿﺎﺣﻜﺎ .. ﺿﺤﻜﺔ ﺳﺎﺫﺟﺔ ﺑﺮﻳﺌﺔ ﻻ ﺗﺪﺭﻙ ﻣﺎ ﻳﺤﺎﻭﻃﻬﺎ .. ﺛﻢ ﺑﺎﻛﻴﺎ ﺑﻴﻦ ﺃﺣﻀﺎﻥ ﻛﻬﻞ ﻣﺸﻴﺐ ﻓﺎﺭﻗﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮ ﺭﺟﻌﺔ ..

ﺛﻢ ﺭﺃﻳﺘﻨﻰ ﻓﻰ ﻛﻨﻒ ﻓﻨﺎﺀ ﺃﻓﺴﺢ ﻣﻦ ﻓﻨﺎﺋﻨﺎ ﺍﻷﻭﻝ ﺗﺘﻮﺳﻄﻪ ﺳﺎﻋﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺗﻌﻠﻦ ﻣﻊ ﻛﻞ ﺩﻗﺔ ﻋﻘﺮﺏ - ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻟﺴﺎﻡ - ﻋﻦ ﺇﻗﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .. ﺃﻭ ﻟﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ..

ﺛﻢ ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﺮﺳﻰ ﻭﺛﻴﺮ ﻭ ﻣﻜﻮﻣﺔ ﺃﻣﺎﻣﻰ ﺛﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﺭﺍﻕ .. ﻣﻠﻘﺎﺓ ﻓﻰ ﻏﻴﺮ ﺇﻛﺘﺮﺍﺙ .. ﻓﻰ ﺇﻧﺘﻈﺎﺭ ﻣﻦ ﻳﺤﻨﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ .. ﻓﻰ ﺇﻧﺘﻈﺎﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻄﻲ ﺍﻟﺴﺨﻲ ﺍﻟﺬﻯ ﻳﻜﻠﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎﺀ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ..

ﺛﻢ ﺭﺃﻳﺘﻨﻰ ﻛﻬﻼ ﻣﺸﻴﺒﺎ ﺭﺍﻗﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺕ ﻣﺎ ﺭﻗﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻜﻬﻞ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻗﺒﻞ ﺭﺣﻴﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺰﻋﻢ ﺃﻧﻪ ﻣﻌﻠﻮﻣ .. ﻭ ﺃﺯﻋﻢ ﺃﻧﻪ ﺍﻟﻤﺠﻬﻮﻝ ! ﻫﻮ ﺍﻵﻥ ﻗﺪ ﺗﻴﻘﻦ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ .. ﺃﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻓﻤﺎﺯﺍﻟﺖ ﺩﻭﺩﺓ ﺍﻟﺸﻚ ﺗﻨﻬﺶ ﻟﺤﻤﻰ..
رأيت كل شئ لكنى لم أبصر شيئا ..

ﻭ ﻓﺠﺄﺓ .. ﻏﺎﺏ ﻛﻞ ﺷﺊ .. ﻏﺎﺏ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﺍﻟﻔﺴﻴﺢ ﻭ ﺗﺒﺨﺮﺕ ﺍﻟﺮﻛﻀﺔ ﻭ ﺍﻟﻀﺤﻜﺔ ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺩﺧﻨﺔ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺤﻴﻄﺔ ﺍﻟﻤﻘﻮﺿﺔ ..

 ﺭﺃﻳﺖ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ ﻭ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺍﻷﺷﻴﺐ ﻳﻐﻴﺒﺎﻥ ﻓﻰ ﻓﻀﺎﺀ ﺍﻟﺪﺧﺎﻥ ..
ﻭ ﻏﺎﺑﺖ ﺍﻟﻜﺆﻭﺱ ﻭ ﺍﻟﺴﻮﺍﺋﻞ ..
ﻭ ﻏﺎﺏ ﺍﻟﺪﺧﺎﻥ .. ﻭ ﻟﻢ يغب.

الأحد، 17 مارس 2013

لقاء


(1)

كانت عقارب الساعة المعلقة على الحائط العارى المقابل لباب غرفته بجوار صورة كبيرة للمناضل تشى جيفارا تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل عندما كان هو متوضعا على الأريكة البالية التى وعدته أمه بتنجيدها مرارا دون أن تفى بوعدها .. – و على الرغم من توفر المال إلا أنه أخذ يتناسى كونها بالية - و بيده رواية متهالكة الغلاف لنجيب محفوظ كان قد استعارها من زميله بمكتب المقاولات الذى وفق للعمل به فور تخرجه هذا العام، عندما سمع رنين الهاتف يخترق حاجز السكون الذى أضواه مع الليل الساج .. فهرول إلى الهاتف قبل أن يوقظ ضجيجه النمطى المتصل النيام.
‏- ألو .. من؟
جائه الصوت على الفور هادئا عذبا ملائكيا كأنما يتنزل من على.
‏- هشام؟
‏- أجل.
‏- آسفة جدا لإزعاجك فى هذا الوقت المتأخر .. أنا لقاء زميلتك بالمكتب.
‏- أوه ! آسف يا لقاء إن صوتك مختلف تماما بالهاتف لذا لم أعرفه. و لكن من أين لكى برقم المنزل؟
‏- علمت من زملائنا أنك مريض و أخذت الرقم لأطمئن عليك.
‏- أنا جد ممتن لإهتمامك .. ألم ألم بى فألزمنى طريحا للفراش .. و يبدو أن الضيف ثقيل يؤثر الإطالة.
ضحكت لقاء قائلة : ستتعافى عاجلا بإذن الله .. و تعود إلى كرسيك الخالى بالمكتب. أكرر أسفى لإتصالى المتأخر. إلى اللقاء.
‏- إلى اللقاء.

(2)

فى اليوم التالى عندما دقت عقارب الساعة مشيرة إلى مضى ساعة على إنتصاف الليل .. رن جرس الهاتف مجددا .. و لكن هشام فى هذه المرة كان جالسا إلى جواره .. فقد كان يتوقع مثل هذا الإتصال .. أو ربما كان يهفو إليه فجعله هذا ينتظر بجوار الهاتف فى شغف!
جائه صوتها العذب كأنما هو مقطتف من سيمفونية أبدعها سيد أساتذة الموسيقى
‏- ألو .. هشام؟
‏- كيف حالك يا لقاء؟
‏- بخير. و أنت كيف أصبحت اليوم؟
‏- أفضل بكثير من أمس .. ربما آتى للعمل غدا.
‏- رائع! و لكن لا تضغط على نفسك .. إن كنت تشعر ولو بقدر ضئيل من الألم فلا تحمل نفسك على المجئ فيزداد الألم.
‏- لا تقلقى .. لن أخرج من المنزل إلا عندما يتم شفائى بالكامل.

و أحس أن الحديث بهذا يؤول إلى نهايته .. فأراد أن يقول أى شئ يمد به مدة الحديث.
و لكنه لم يدر ما يقول ..
فجاءه صوتها
‏- حسنا دمت بود.
‏- و أنتى أيضا.

(3)

فى ذلك اليوم استقيظ مبكرا ، نشيطا متفائلا على غير العادة ، كأنما أشرقت روحه مع إشراقة الشمس. إرتدى حلة أنيقة و تعطر من تلك الزجاجة الثمينة المحفوظة بالدولاب الخشبى العتيق. و رشف رشفتين من كوب الشاى بالحليب ثم هبط مسرعا لكى لا يتأخر .. إنه فى هذا اليوم دونا عن سائر الأيام ينبغى ألا يتأخر .. إنه اليوم سيلقاها بعد مضى أسابيع مذ لزم الفراش يسمع صوتها كل يوم .. كان يشتهيها إشتهاء عاجزا .. إلا أنه عفيفا.
عندما خرج من بوابة العمارة الحديدية وجد أرض الشارع مغطاه بالوحل .. فخشى أن تتسخ حلته الأنيقة .. و حارب حربا ضروس ليتفادى برك الوحل السابحة على سطح الأسفلت .. ثم خرج إلى الشارع الرئيسي و طال إنتظاره للميكروباص الذى كان يستقله يوميا إلى المكتب قبل أن يلزمه ألمه الفراش. كان يريد أن يصل مبكرا تحت أى ظرف فقرر أن يركب سيارة أجرة (تاكسى) و يتركها على الله .. على الرغم من البون الشاسع فى الثمن بين الوسيلتين .. إلا أن اليوم يوما مختلفا تماما .. لا ضير من التضحية ببضع جنيهات.

***
ما أن دلف إلى المكتب حتى إندفع الزملاء نحوه كأنما انفجرت ماسورة و تدفقوا منها .. حاوطوه مهنئين  حامدين الله على سلامته .. ثم رأاها .. كانت جالسة على كرسيها فى المكتب المجاور لمكتبه.. بعينيها الدائرتين و أنفها المنمنم و شعرها الأسود الداكن المنسدل على كتفيها .. تقدم منها
-         هشام !! حمدا لله على سلامتك , كيف حالك؟
-         بخير يا لقاء .. كيف حالك؟
-         الحمد لله .. علمت من الزملاء أنك قادم منذ ربع ساعة فقط .. لكنى لم أصدق.
فضحك قائلا : ها أنا ذا أمامك
-         سعيدة لرؤيتك ..
-         و أنا أيضا
لم يدرى ماذا يقول .. كان أريد أن يطيل الحديث و لكنه لم يجد ما يقوله كالعادة .. فاتخذ موضعه على الكرسى خلف المكتب المجاور.

(4)

كان منهمكا فى بعض الملفات ..
اجتثه صوت رنين الهاتف من تركيزه ..
‏- ألو .. كيف حالك يا لقاء؟
‏- كيف حالك يا هشام؟
‏- لماذا لم تأتى اليوم إلى المكتب؟
‏- أى مكتب؟
‏- المكتب يا لقاء ! المكتب الذى نعمل به ‏
‏- واضح أنك مرهق قليلا.
لا تنس أن تتبضع لنا قبل مجيئك .. فحماتى قد تأتى اليوم لتمكث معنا بضع أيام.
-         أمى؟ لم تقل لى؟
-         بل قالت لك بالأمس.

أوما برأسه متذكرا و قال : أجل أجل .. لقد نسيت .. حسنا .. سأجئ بالأولاد من المدرسة ثم أمر عليها.

ثم وضع السماعة و أرخى رأسه على الكرسى الوثير.







الخميس، 14 مارس 2013

الفم الأيسر



هذه القصة مشتركة كتبها : محمد عصام عبدالفتاح و عمر سليم

***

لم تكن كندوة عادية أو مناظرة بي اثنين من كبار علماء الأنثروبيولجيا يتصايحون فى عناد من أجل أن يثبت كلاً منهما خطأ الأخر قبل إثبات صحة موقفه .. ولم يكن أيضاً لها طابع مناقشة رسائل الدكتوراه فبرغم حداثة سن (يوسف شريف) إلا أنه لم يكن مستسلماً أو حتى مراعياً لفارق الخبرة الأكاديمية المهول لصالح الأستاذ (مازن عبد الخالق) بل بدا مشاكساً منازعاً عنيداً للغاية.

الندوة التى أقيمت بجامعة (س) فى إحدى الدول العربية تحت رعاية السيد يحيى كشك محافظ أسيوط بدأت فى تمام الثامنة مساءاً بقراءة بضعة أسطر من البيان الشيوعى تلاه كلمة للأستاذ (صديق التونى) الباحث فى أصل الأنواع والذى اضطلع بقيادة تلك المناظرة الساخنة للغاية.

فما بين الداروينة والشيوعية والماركسية والأناركية دارت تلك المناظرة .. خرجت أعن هدفها قليلاً من أجل المزيد من الإيضاح أحياناً .. ومن أجل العناد وتسفيه الأخر فى أحيان أخرى.

أعزاؤنا قراء جريدة (الأسبوع) اليومية كما عودناكم دائماً على تسليط الضوء بمنتهى الحيادية على على كل الأحداث العلمية الهامة .. فإننا نعود هذه المرة وبقوة وننشر لكم النص الكامل لتلك المناظرة.

أعد هذا التقرير وأرسله : مراسلنا هناك (محمود الأناضولى)

***


- مؤخرا يا سيدى وفقت لقراءة البحث الخاص بتحليل و تجريد إشكالية ضمور الفم الأيسر. و لكى أكون صادقا .. فالبحث عميق للغاية و جد شيق .. لكنه من وجهة نظرى يغفل كثيرا من النقاط فى رسمه لخط سير التطور البيولوجى للإنسان ..فحضرتك أساسا تبنى نظريتك على وجود دور للدين فى البيولوجيا ... و هو أمر جد خطير .. فى الحقيقة .. إنك تعطى للعادات و التقاليد أكثر من حجمها و تقول أن الفم الأيسر ضمر نتاجا للدين بعد أن سادت القيم الدينية المجتمعات أصبح الأباء يربون أبنائهم على استخدام الفم الأيمن فى الأكل و الشرب و الصلاةو الكلام بينما الفم الأيسر كانت وظيفته الوحيدة البصق و السباب.. فقلت وظائفه فضمر!!.. أنت بزعمك هذا تقول أن الصفات المكتسبة تورث !! و هو أمر يتعارض أساسا مع المبدأ الماركسى القائل بمنع قضية التوريث !!

- يا الله
هذا الفسل صارت له وجهة مظر وصار يعدل علي ما أقول
أنا مازن عبد الخالق أستاذ الأنثروبيولوجي الذي لا يستشهد الا بما أقول … قد جاء اليوم الذي اقف فيه أناظر مدعِ مثلك
لكن علي أي حال قل يا علامة عصرك إن لم يكن الدين قد تدخل في سير عملية التطور فبم تفسر مثلاً ضمور الفم الأيسر
أستعيد الأمر للقدر وتهمل استخدام عقلك ?
أم ستقول هراءاً عن نبؤة كتبها هيرب الهيرباوي ذات يوم
التوريث لم تسقطه الماركسية بل اسقطته ارادة الشعب في ميدان التحرير

- يالك من متحذلق !
يا سيدى لابد من وضع أساس نبنى عليه .. أنت بنيت نظريتك على أسس واهية .. قضية أن نحلل الوقائع البيولوجية وفقا لشئ خارج عن الطبيعة هو جد هزل !!

المنطلق الذى يجب أن ننطلق منه هو أن التوريث مؤدلا محالة الاستعباد .. و تكديس رؤوس الاموال ... و سيادة طبقة على أخرى .. و هو فى الانثروبولجيا مؤد إلى سيادة نوع على آخر ...

و الانسان (بفطرته التى فطرتها الطبيعة) مدرك لهذه الحقيقة .. و لذا فقد حارب حربا ضروس توريث الصفات و العادات ... و سعى دائما إلى خلق عادات ملائمة لكل عصر !!
أضف إلى ذلك أن إنسان الشيوعية البدائية لم يكن يمتلك فميه (الأيمن و الأيسر) أصلا .. إنما كانا مشاعا لكل السكان

- نعم اتفق معك جداً ولكني اعارضك في كل ما تقول وسأبرهن لك

- هات ما عندك أيها العجوز المتحذلق .. هكذا أنتم دائما .. متمسكون بأفكار واهية
-  
- الدين يا صاحبي هو أصل كل شئ فانت كنت سترد الأمور لشئ سواه فأنت تهمل قدرة خارقة تقدر علي تغيير مجري التطور
انظر الي قوم عاد وانظر الي قوم نوح
قوم نوح إنهم نجوا في سفينة وكان فيهم من كل الاجناس والمخلوقات ولهذا صار الانسان انساناً كاملاً
لقد حاز الأفضل من كل جنس عن طريق التكاثر التفاعلي
أليس هذا هو الدين
أليس هذا هو الدين يامن أعمت بصائركم الدنيا وعجزتم عن رؤية الحق

- أرى أنك قد حولت النقاش إلى صراع عقدى لا مناظرة علمية !! و على أى .. إعرض نظريتك أمام الحضور و سأعرض .. ثم يحكمون.

- الأمر يا سيدي لا يتعلق بالعناد من أجل لاشئ بل هو من أجل اثبات أن مولانا داروين لم يمت من أجل لاشئ
فقد وقعت تحت يدي بالمصادفة ورقة داروينية نادرة بينما كنت أبحث في كيفية تضخم أثداء الأوز البرازيلي
الورقة كانت تحتوي علي ما سأقوله أمامكم الان مترجم ترجمة حرفية

- لحظة من فضلك ! إنك ترتكب خطأا فادحا يدل على إضمحلال الرؤية ! إن الأوز البرازيلى تضخمت أثداءه نتاجا لتتحر من العبودية للبط البرجوازى الحاكم .. إبان الثورة الأوزية البروليتارية !!

-
الورقة تقول:
  • بسم الله وصلاةً وسلاماً علي رسول الله وعلي صحابته الكرام وعلي التابعين البررة
    أما بعد فأنا داروين عبد الله الفقير أكتب إليكم الان ولا أعلم أستصل رسالتي إليكم أم لا فأنا تائه في صحراء البرازيل منذ يومين ولا اكل ولا أشرب إلي من لبن ثديي
    نعم لا تستنكرون ما أقول حين تقرؤه _لو وصل إليكم_ فالأنسان لديه ثدي قادر علي انتاج اللبن حين تقتضي الضرورة ذلك ولا يكون مفراً من الجوع أبداً
    • قرأت فى دورية نشرتها ناشيونال جيوجرافيك أبو ظبى أن
      كل من فُقدوا وجدوا في تحليل عظامهم آثار كالسيوم مقوي وهو ما لا يوجد إلا في لبن الرضاعة الطبيعية أو لبن بخيره وهو المر الذى استبعدته الدراسة
      أنا تقريباً الوحيد الذي سأنجو من الهلاك فقد حانت بشائر الفرج .. فها هى أصوات همهمات تقترب منى جداً حتى أكاد أميز من بينها أصوات تقول بلغبة غريبة "هذا الغريب .. اقتلوه" .. حمداً لله
      ان الوحدة زادتي تأملاً في جسدي الفقير
      فشعرت أن الدين الذي أخرجني من الهلكة له دور في تطوري وتطور كل بشري .. بالتأكيد له دور أكبر من طقوس جوفاء
      سأنظر الان إلي الأمر عملياً في موضوع فمي الفقير
      فمي هذا كان يوماً ما له صلحب يجاوره
      لكن تعاليم الدين السماوي قلصت من دور أي عضو أيسر حتي ضمرت تدريجياً
      لو عدت من الهلاك إلي مكتبي المكيف في الجامعة فسأكمل بحثي عن موضوع السرة اليسري و كيف يولد التوائم
      الله أعلم هل ما أقوله الآن علمى .. أم أننى تحت تاثير الجوع بدأت أهلفط فى الكلام
      أما الان فأنا مجهد جداً وسأرضع قليلاً من لبني ثم أخلد للنوم
      و الحمد لله

      (تصفيق حاد فى صفوف الحضور و بكاء .. ثم يقف أحدهم قائلا "أشهد أن لا إله إلا الله" )

      نظر يوسف إلى الدكتور مازن بسخرية ثم قال : الآن آن آنى لأبين وجهة نظرى

      إنه فى أثناء الشيوعية البدائية .. كانت الأفواه مشاعا لا يملكها أحد .. و عند إكتشاف الزراعة و بدء خلق الملكية الخاصة و نشوء الطبقات نتاجا لوجود فائض من المحصول يمكن تخزينه .. و نشوء ما يمكن أن نسميه بجهاز بدائى للدولة .. قامت تلك الدولة بتكميم الأفواه و محاصرتها ثم إدعت أنها ملكها لا ملك حامليها .. قامت ثورة عنيفة جرارة تطالب بحق ملكية كل فرد لفييه (الأيمن و الأيسر) ..و بعد سقوط عدد من الشهداء .. تمت التسوية .. بأن يكون الفم الأيمن ملكا للفرد و الأيسر ملكا لجهاز الدولة .. و تعرف هذه الثورة بالثورة الماوثوماركسية .. و قد كان الجبرتى أول من أشار إليها فى كتابه (The Mouthomarxist Revolution) و بمرور الوقت .. أضحت السلطة تتركز فى أيدى قلة من الإقطاعيين .. و بالتالى حق ملكية الأفواه اليسرى.. و كانت تخرج بين الحين و الآخر ثورة مطالبة بحق امتلاك الفمين .. و غالبا ما كانت تخمد تلك الثورات بانتزاع الفمين !! و بمرور الوقت و تركز الأفواه اليسرىفى أيدى الإقطاعيين .. بدأت تقل عدد الأفواه .. فكثير منها بات غير ذى قيمة !
      و لما قامت الثورة الصناعية و سقط الإقطاع .. ضمر الفم الأيسر بالكامل !! فاتحا المجال لسيطرة الفم الأيمن الرأسمالى ! و لا ننسى أن شعار الثورة الصناعية كان (أفواهنا حق مش منحة يا ولاد الوسخة) (المصدر : بحث عن الثورة الصناعية أجراه الإمام الشهيد عمرو مصطفى)
      يقول الإمام العلامة الحبر الفهامة كارل بن هينريتش ماركس فى كتابه "المسألة الشرعية فى الرد على الخطايا الأنثروبولجية" فى فصل بعنوان "الجواب الميسر لمن سأل عن إشكالية ضمور الفم الأيسر" - يقول : فى الإنتاج المادى الذى يزاوله الناس , نراهم يقيمون علاقات لا غنى عنها .. مستقلة عن إرادتهم .. و من هذه العلاقات علاقة الآلة المنتجة و أسلوب الإنتاج برمته بالفم. (...) فلما كانت الشيوعية البدائية كان من الممكن الإعتماد على فمين أو أكثر .. إذ لم تكن الأفواه ملكية خاصة .. و فى المنظومة الإقطاعية تناقصت وظائف الفم الأيسر نتاجا لسيطرة القوى الظلامية الرجعية القاهرة .. و بهذا أصبح الفم الأيسر مهيأا لتلقى الضربة القاضية التى وجهتها له الثورة الصناعية على يد (طلعت حرب) .. فضمر نتاجا لأسلوب الإنتاج المتغير ... إن أسلوب الإنتاج هو الذى يحدد عدد الأفواه و ليس العكس !! "

      أطرق السيد مازن لهنيهة ظن فيها يوسف أنه حججه بجته.. إلا أنه ما لبث أن قال : يوسف .. الحق يقال لقد أعجبنى للغاية أسلوبك المنسق فى الحديث .. و تراتبية أفكارك .. و سأختم رأيى بقول واحد هو الأيام بيننا  .. فوفقا لنظريتى العلمية (نظرية التأثير البنيوى للدين على الأنثروبولجيا) و التى أسميتها النظرية المازنية .. سيعود الفم الأيسر للإنسان بمجرد تحرر البشرية من وهم الآلهة .. أى عندما تدرك أن الحقيقة هنا ولا شئ متجاوز للمادة .. و تلحد البشرية جمعاء .. حينها يعود الفم الأيسر

      فرد يوسف بصوت بدا فيه شيئا من الظفر : و وفقا لنظرية الإمام العلامة كارل بن هينريتش ماركس القائلة بترتب الأنثروبولجيا و سائر العلاقات الإنسانية على الإنتاج المادى و التى طورتها أنا و أعطيتها إسم النظرية الماركسوشريفية .. فإن البشرية سيضمر فمها الأيمن بمجرد السقوط العاجل للمنظومة الرأسمالية .. فحينها يغيب المركز من البنية  مع صعود الأناركية.. فتصبح اللغة عديمة القيمة .. فيضمر الفم الأيمن 

      (تصفيق حاد فى صفوف الحضور)

      ثم تصافحا واقفين أمام العدسات التى تكالب حاملوها على تصوير العالم .. و المهرطق !

      الثلاثاء، 12 مارس 2013

      طيران ~ مجموعة قصصية قصيرة جدا 3


       - هذه القصص منفصلة 


      ***

      وهم

      نسجنا خيوطا من الوهم مشكلين بيتا كبيرا .. ثم دلفنا إليه بمطلق إرادتنا .. و قبعنا بداخله .. إلى الأبد !

      ***

      استنجاد

      توالى الطامعون بها تترى , أناس من شتى الطبقات , فهذا فاحش الثراء ذو السلطان و ذاك ميسور الحال , و هذا الفقير المتظاهر بالقدرة .. و لكنها حاولت بائسة مقاومتهم جميعا !

      ثم سمعت السباب و اللعنات تنصب على الأباء و الأجداد و كل ما له صلة بها !

      و نادتنى مستنجدة من الشرفة

      و هممت بالصعود .. لكنى جزعت و انسللت من الطريق خفية !

      ***

      طيران

      كانت تلك الليلة الأخيرة التى سنلتق بها قبل أن تباعد بيننا البحار الزاخرة .. فغدا أسافر إلى الخارج باحثا عن ما لم أجده هنا .. مضت سنون مذ تخرجت و ما زلت عالة على والدى الذى هو عالة على. تمنيت لو سافرت دون أن أرى وجهها .. فأنا لا أحتمل لحظات الوداع و الفراق. و لكن قدمى قادتنى إلى منزلها دون أن أشعر .. وجدتنى واقفا تحت شرفة غرفتها .. و ناديتها فخرجت إلى الشرفة متجهمة الوجه .. و لما رأتنى أشاحت بوجهها ثم دلفت إلى الغرفة دون أن تنبس ببنت شفاه.

      صعدت إلى سطح المنزل و استلقيت على ظهرى و أخذت أنظر فى لا مبالاه إلى تلك النجوم السابحة بجو السماء ..و سبحت بمهامه الفكر.. ترى هل تفعل السماء بتلك النجوم ما تفعله بى الأرض .. تتلقفنى و تطحننى و تعبث بى عبثا .. و ما لى من ناصر .. و ما لى قدرة على المقاومة ..        
       و تلك النجوم, هل تسبح بإرادتها أم أن ثمة من يجبرها على ذلك؟ هل تسبح بإرادتها أم أن ثمة من ألقى بها فى هذه المطحنة؟!
      رفعت يداى إلى السماء مبتهلا .. و تمنيت لو انتهى الدور الذى أؤديه فى تلك المسرحية سريعا .. و ألا يكون مشهدى الختامى مأسويا.

      ما هى إلا لحظات حتى وجدتها جالسة بجوارى

      -      -   كنت أعلم أنك ستصعدين.


      لم تنبس ببنت شفاه .. لم تحرك ساكنا .. كانت عيناها مثبتتان ناحية السماء

      -      -   صدقينى .. ما باليد حيلة , نحن مخطوبان منذ أعوام .. و حتى هذه اللحظة ليس بمقدورنا – أو إذا أردتى الدقة الكاملة – ليس بمقدورى الزواج .. أنا سأسافر لأنى أحبك .. سأذهب لأنى أريدك .. و لن يطول الفراق ..

      لم تتكلم أيضا .. و استمر الصمت الرهيب

      -      -   إنك تقتلينى بصمتك .. قولى أى شئ .. أطلبى أى شئ .. لو طلبتى منى أن أبقى فسأبقى
      -      -   أى شئ؟
      -      -  أجل

      صمتت لبرهة أطالت فيها النظر إلى السماء حتى خيل لى أن عيناها قد أوتيتا القدرة على رؤية ما ورائها .. ثم قالت : أريد أن نطير .. أن نحلق و نسبح بالسماء.

      ثم وقفت على حافة السطح و قالت لى : هيا .. قم لنطير.

      فوقفت .. و اتجهت نحوها غير مدرك لما تريد .. ثم أمسكت بيدى و .. طرنا فى السماء .. كحمامتين.

      السبت، 9 مارس 2013

      ياسمين

      يومها قررت أن أسلك سمتا آخر تفاديا للزحام و تدافع كتل اللحم البشرى ذات الروائح المتباينة المائل أغلبها إلى العفن .. نتاجا لتراكم العرق.

      مضيت فى طريق جديد لا أعلم ما فيه و من فيه
      و حانت منى إلتفاتة صوب اليمين .. و للمرة الأولى .. رأيتها 
      جذبتنى إليها كأنما كانت قطبا سالبا يجذب زوجه الموجب
      مضيت إليها بغير إرادة .. خيم على سحرها فتحول المكان بأكلمه إلى حديقة غناء 
      تحاوطنى الكروم المعروشات و أشجار التفاح بثمارها المتهدلة .. و الياسمين برائحته الأخاذة ..
      و انقلبت الشمس قمرا .. نثر ضوئه الفضى مضفيا على الجنة جوا ساحرا .. و تصاعدت أصوات زقزقة العصافير فى أكناف الحديقة ..

      دنوت منها و أطلت النظر إليها .. و ابتسمت .. فابتسمت
      ثم ضحكت .. فضحكت
      ثم ملت عليها و همست مغازلا .. فضحكت مجددا 
      و هممت بأن أقطفها .. و لكنها توارت خلف الأغصان
      فناديتها .. فقالت لى "إن قطفتنى .. قتلتنى"

      فقلت لها "تذكرينى دوما"

      و هممت بالمضى .. إلا أنها قالت لى "أترك لى ما يذكرنى بك."

      فتركت لها قلبى .. و مضيت.

      الثلاثاء، 5 مارس 2013

      مجموعة قصصية قصيرة جدا ۲

      ملحوظة : تلك القصص منفصلة.

      ***

      صلاة

      تلفحت العاهرة باسدالها ثم قالت له : نح الكؤوس و اللفافات جانبا و اغتسل و ألق عليك جلبابك
      فنظر إليها بعينين غائمتين متسائلتين ..
      فأجابته : إنه وقت الصلاه
      فأومأ برأسه متذكرا 
      و اصطفوا وراء الإمام محاولين جلب الخشوع


      ***

      كراسة رسم 

      وضعت كراسة الرسم الجديدة أمامى على المكتب و أخرجت علبة الألوان من الدرج ..
      كنت قد قررت أن أشرع فى تعليم نفسى الرسم 
      فى المرة الأولى رسمت خطا
      و فى الثانية - و بعد محاولات شاقة - رسمت مربعا
      و فى الثالثة رسمت دائرة .. و لكم كانت فرحتى بدائرتى الأولى .. و كان من حولى سعداء كذلك 
      عاودت الإمساك بالفرشاه .. مرارا و مرارا 
      أخط خطوطا طولية و عرضية و أرسم دوائر و مربعات و أشكال لا قيمة لها على الإطلاق 
      .. و بعد فترة طويلة و ليال من الجهد المضنى .. تمكنت من رسم لوحتى الأولى 
      كانت لوحة لطفل يلهو فى حديقة غناء
      لم أصدق نفسى .. كدت أطير جذلا .. و انطلقت مسرعا إلى كل من أعرف لأريها لهم
      أبى .. أنظر .. لقد رسمت لوحة , أنظرى يا أمى .. لوحتى الأولى 
      و أسرعت لأريها للجيران و الأصدقاء 

      فى اليوم التالى أمسكت بالكراس لأواصل الرسم .. و تأملت كثيرا بلوحتى الأولى ..
      ثم أمسكت بفرشاتى و قلبت الصفحة .. و لكن الكراس كان قد انتهى ..

      ***

      سرب حمام

      دلفنا إلى محطة القطار و انتظرنا لبرهة حتى وصل القطار لأول الخط .. أخذنا العربة الأخيرة على الرغم من خلو بقية العربات إلا من عدد قليل من الركاب.
      كان القطار يمر فى طريقه على بلدان كثيرة .. فحانت منى إلتفاتة إلى النافذة المجاورة .. رأيت أسرابا من الجراد تنقض على حقل من القطن فتهمل فيه أفواهها حتى تبيده عن بكرة أبيه .. بينما كان القوم وقوفا غير مكترثين.

      بعد عدة ساعات غلبنى النعاس و رأيتنى محلقا مع سرب من الحمام قاصدين أحد المواطن 
      و فجأة سقطت إحدى الحمامات فهبط مسرعا لأرى ما الذى ألم بها .. و عندما نظرت إلى أعلى لم أرى سوى سماء صافية الأديم .. كان السرب قد مضى

      اجتثنى صوت أحد الركاب ليخبرنا أننا قد وصلنا إلى آخر الخط
      و عندما توقف القطار و نزلنا .. وجدنا أنفسنا بالمحطة الأولى.


      ***

      سجن فسيح

      بعد ليلة جديدة قديمة حالكة الظلمة فى زنزانتى الفردية الفسيحة التى أنقبع بها مؤثرا إياها على الجلوس بالفناء مع باقى المساجين , أشرقت الشمس من ناحية المغرب ! 
      كان ضوئها الكيب قد طفق يتخلل فتحات الزنزانة عندما كنت أرتل بعض الأذكار ..
      أصابنى نورها المشوب بلون خافت معكر بشئ من الاكتئاب .. ولكنى كنت قد وطنت نفسى عليه منذ فترة طويلة ..فالشمس أضحت تديم الشروق من المغرب !
      و لكنه شروق ليس كشروقنا النضر البهيج .. ليست هى تلك الشمس التى تعكس بعد مغيبها ضوئها على القرص الفضى لينثره مغازلا أغصانا تهفو ثم يعبرها منثورا على الأديم كحبات اللؤلؤ! لا! إنه شروق كئيب .. شروق هو أشبه ما يكون بالعتمة
      تشرق الشمس فيحل الظلام الدامس على الرغم من شدة الضوء!
      أتلفح بالبطانية منقبعا من ذلك الشروق الكئيب ..
      و لكن ما هى إلا دقائق و يغمر هذا الضوء الكئيب المكان بأكمله مخترقا حاجز البطانية كأنها لم تك شيئا ..
      لم يعد إذن من فارق بين الداخل و الخارج .. فأقرر الخروج!

      *

      كان يسألنى دائما عن سبب عزلتى و انقباعى .. و لكنى كنت أومئ برأسى دون أن أنبس ببنت شفاه
      و ذات مرة قال لى : "هل سأمت الحرية؟ لقد سأمتها دون شك."

      - إن الحرية هى جوهر وجودنا وغايته .. إنها شئ لا يسأم!

      - إذن لماذا تؤثر العزلة؟ لماذا تهرب من هذا العالم الحر الفسيح؟

      - زنزانى أفسح من عالمكم .. عالمكم الفسيح لا يسعنى .. ماذا تفعلون أنتم بالخارج ؟ .. لا شئ ! إنكم تخدعون أنفسكم بإيهامها أنكم تخرجون من السجن حين تتركون الزنازين إلى الفناء .. ولكن لا تدركون أن الجدران تحاوكم من كل جانب .. حتى خارج الزنازين .. إنكم ترونها و لكنكم لا تبصرونها .. إنى أنتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التى يفرج فيها عنا .. أنى أتوق لنسيم الحرية."

      "مشكلتك أنك لا تدرك أنك خرجت من السجن منذ .... ثلاثة أعوام !"

      الخميس، 28 فبراير 2013

      مجموعة قصصية قصيرة جدا



      تلك القصص منفصلة ..

      ******************************


      طلاء 

      كانت البلدة واقعة تحت براثن الاستعمار .. مقوضة بحدوده و سدوده .. أسيرة قيوده الضاربة فى جذورها .. على الرغم من جلاء المستعمر منذ عهد سحيق ..

      بعد ليال حالكة الظلمة , أشرقت الشمس .. من حيث تغيب ..

      و رأوا البلدة المجاورة تتقدم و تتطور , ينتجون و يستهلكون و يسرفون ..

      يفعلون كما يفعل المستعمر الراحل فى أرضينه ..

      فأضحى ذاك التقدم حلما قوميا منشودا .. ترسخ فى ألباب الأجيال المتعاقبة ..

      و بعد عقود من المحاولة و الفشل , طلوا أنفسهم بطلاء أبيض اللون !


      ******************************

      عشق 

      كان وجهها شاحبا للغاية و امارات الحزن الدفين متبدية عليه .. كأنها جزء لا ينفك من ملامحه.

      فسألتها : ماذا بك؟

      و لكنى لم أسمع أي جواب على الإطلاق

      صمت لبرهة ثم عاودت سؤالى .. و فى تلك المرة أيضا لم أسمع أية أجوبة

      قلت فى نفسى لعلها مكتئبة إلى الحد الذى يستعصى معه الحديث .. و مضيت ..

      ***

      فى اليوم التالى سألتها مجددا "ماذا بك؟"

      و لكن صمتها استمر محدثا فى نفسى أثرا جللا .. 

      اقتربت منها و ربت على ظهرها ثم عاودت سؤالى مرارا حتى كللت 

      و لكنها فى كل مرة لم تريحتى بالجواب .. نفس ذلك الصمت الرهيب .. نفس تلك الصفعة .. تلقيتها .. و مضيت ..

      ***

      كان وجدها قد ازداد شحوبا و جسدها قد انبرى فى المرة التاسعة أو ربما العاشرة التى التقينا بها

      و ما زال صمتها مستدام .. ما زال يصفعنى و يطعننى 

      - لماذا ترفضين الإفصاح عما بك؟

      - ......................................

      - هزل جسدك . ستموتين هكذا !

      - ....................................

      - هل قصرت معك فى شئ؟

      - ...............................

      - أرجوك , قولى أى شئ . أريحينى .. عللينى .. أطردينى ..قولى أى شئ !!

      لكنها لم تقل .. و استمر الصمت ..

      لمحت على الطاولة المجاورة قدح من الماء كنت أعلم أنه لها .. فأطرقت لهنيهة .. ثم نظرت إليها و لم أتبين إن كانت تنظر حدوى أم لا؟

      قفزت بقدح الماء .. و ظللت أسبح فى أكنافه حتى ذبت تماما ..

      و ما لبث أن جاء الساقى و أمسك بقدح الماء و سقاها .. و كنت من ضمن ما سقى ..

      الآن فقط سوف أعلم ما بك .. الآن فقط سوف أعلم لماذا تديمين الصمت .. الآن سنتوحد إلى الأبد .. 

      أيتها الشجرة 


      ******************************


      عدل ظالم

      كان وجهه شاحبا و كانت مقلتاه جاحظتان و عيناه حمراوان .. كأنه لم يذق لللنوم طعما منذ قرون .. ظل مطرقا لدقائق مرت كالدهر .. ثم قال : "يؤسفنى أن أقول لك بأنه (تلعثم قليلا ثم أكمل) بأن الحكم سيصدر بإعدامك."

      - "و لكن .. و لكنك تعلم أنى لم أفعل شيئا"
      قلتها و أنا أحاول أن أسيطر على أعصابى

      - " أجل , أعلم ذلك .. أعلم أنك برئ .. بل و من هم فوقى و بيدهم مقاليد أمرك يعلمون ذلك ! و لكن القانون لا يعلم ذلك .. القانون لا يأبه لمعرفتنا بل و يقيننا بأنك برئ .. القانون لا يأبه لغير تلك الأوراق التى تقطع بأنك مذنب."

      - " و لكنكم تعلمون أنها ملفقة."

      - "نعلم ذلك .. لكن ليس لدينا دليل .. صدقنى يا بنى .. كلنا تعلم أنك برئ .. و لكن القانون - كما قلت لك - لا يأبه بذلك .. و لكن سلواك أنك ستموت مظلوما ..لعلك تدخل الجنة."

      - " أنتم واضعوا القوانين و بمقدوركم التحايل عليه .. أو حتى إيقافه .. لو كان أحدكم مكانى لفعلتم!

      فجأة وجدته يترك موقعه فى هدوء شديد و يقترب منى بخطوت وئيدة .. ثم يصفعنى .. و يعود إلى كرسيه.

      الأحد، 24 فبراير 2013

      الحارة



      - "صباح الخير يا عم ابراهيم"


      - "صباح النور يا علوة , اتفضل معانا"


      - "ربنا يخليك"


      - "مش عزومة مراكبية والله"


      - "ربنا يخليك يا عمنا .. مستعجل والله"


      - "طريق السلامة يا ابنى"


      أمضى فى طريقى بخطوات واسعة سريعة محاولا تفادى المارة الكثر الذاهبين إلى أعمالهم .. لا 
      يمكننى أن أمشى فى حارتنا دون أن ألقى السلام على الجميع .. عم عبده بائع البطاطا , و الحاجة 
      أم أحمد التى تفترش الأرض بسلال من البيض و الفطير و الجبن يسيل لهم اللعاب .. و المعلم عبد 
      الوهاب صاحب القهوة الوحيدة فى حارتنا .. و باعة الخضر و الفاكهة الذين تتراص أقفاصهم المتآكلة 
      هنا و هناك .. و قليل من العربات تتوسط الحارة !


      أتوقف عند عربة الفول التى يغص محيطها بالبشر , و كأنهم يتنافسون على لحم يوزع مجانا ! أحارب 
      حربا ضروس لأخرج بشقتى الفول و الفلافل لآكلهم بنهم فى طريقى ..

      ((حاسب)) .. ينبهنى صوت أم أحمد بأن قدمى كادت تدهس قرصا كبيرا من روث البهائم افترش 
      الأرض.


      ما أن أبتعد قليلا عن المساكن حتى تلوح لى عربات الباعة التى تحمل بضائع من شتى الأشكال و 
      الأحجام و الأنواع و الألوان ! و يبدأ صوت صياحهم و جدالهم المستمر يتردد فى كل مكان!
      إنه السوق ! الجميع يقصده من كل حدب و صوب.


      ياله من مشهد مثير للشفقة !


      كتل من اللحم البشرى تتصارع و تتنناحر على أشياء بعضها لا قيمة له على الاطلاق!

      بعد أن عبرت السوق وجدت الطريق مسدودا .. حائط طويل عريض لا أعلم من أين جاء؟ .. قررت أن أعود 
      لأسلك سمتا آخر .. لكنى لم أجد حارتنا فى الخلف !

      الخميس، 21 فبراير 2013

      فى المسرح




      (1)

      قلت : " هل اكتمل الحضور؟ "

      قالت : " ليس بعد , و لكنهم على وصول "

      قلت : " حسنا , سأستعد ريثما يكتملون! "


      (2)

      بعد زهاء نصف الساعة صعدت إلى خشبة المسرح بعد أن أتممت
      استعدادى ..

      كان المسرح يغص بالحضور , كنت أرى حضورا من شتى الأشكال و
      الأعمار و الألوان ..

      فأثار ذلك فى وجدانى حماسة لم أعرف لها مثيلا من ذي قبل ,
      على الرغم من طول عملى بالمسارح ..

      فطفقت ألقى مقطوعتى الشعرية ببراعة شديدة فاقت ما كنت
      أتوقعه لذاتى !

      كان تشجيع الجمهور و تفاعله مع كلمات القصيدة الملقاه يزكى فى
      نفسى نار الحماسة , فقد كنت أراهم تارة يصفقون .. و طورا
      يصفرون .. و أنا مستمر فى آدائى غير عابئ بأنَى قد تخطيت الوقت
      المسموح به لهذه الفقرة !



      بعد أن انتهت قصيدتى انحنيت محييا الجمهور العريض الذى أخذ
      يصفق حتى ظننت أنهم لن يتوقفون أبدا ... كادوا يصطلمون أذنى !


      (3)

      - " كنت رائعا اليوم , أليس كذلك؟ "

      - " بلى , و لكن العرض كان سيكون أفضل بكثير إذا كان هناك

      حضور ! "