السبت، 22 ديسمبر 2012

الإنحياز إلى العبث

كنت قد ابتعدت منذ فترة ليست بالقصيرة عن الخوض فى الأحداث السياسية على مدونتى الخاصة و إكتفيت بالمناقشات السياسية و الحوار على مواقع التواصل الإجتماعى. و لكن فى خضم الأحداث السريعة و المتلاحقة التى تمر بها مصر قررت أن أبين رأيى على المدونة فيما يحدث الآن فى مصر, فى مقال ليس بالتحليلى و لكنه تعليق على الأحداث, تلك الأحداث التى تزداد عبثيتها يوما بعد يوم, ينمو العبث و يتشعب و ينمى ليهيمن على كل مشهد فى الأحداث الحالية التى تحتاج إلى تثوير حقيقى لفهم كنهها.
 و يصل العبث إلى ذؤابته بإعلان تحالف القوى العلمانية مع قوى النظام السابق و رجال أعماله عدم قبوله بالنتيجة التى أسفرت عنها العملية الديموقراطية على الرغم من مشاركته فى العملية من بدايتها, و هو بذلك يشبه فريق كرة القدم الذى يخوض مباراة ما و يرتضى لإدارتها حكما بعينه - و هو فى حالتنا الصندوق - ثم يرفض الإعتراف بهزيمته و يتحجج بحجج واهية على غرار ظلم الحكم أو عدم ملائمة الجو أو سوء أرضية الملعب. و يظل هذا الفريق المهزوم يوهم نفسه بأن تلك هى أسباب الهزيمة لأنه لا يريد أن يدرك أو يقتنع أن منافسه يفوقه مهارة و خبرة فى هذا المضمار, و أن الإشكالية الحقيقية تكمن فيه ذاته; كحال القوى المدنية فى بلادنا التى لا تريد أن تدرك و تعترف بأنه لا يمكن بأى حال من الأحوال و تحت أى ظرف من الظروف أن تتساوى ثمار عمل عشرات السنين فى الشارع بين الجماهير مع ثمار عمل أشهر معدودة!
الشعب ارتضى أن يكون الصندوق هو الحكم فى تلك المبارة و هو لن يقبل أطروحة رفض نتائجه و الإنقلاب عليها لأنه يدرك خطورة إذكاء الفتنة مجددا. فالإعتراض على الحكم المرتضى مسبقا يعنى خوض الطرفان المتصارعان لمباريات بلا حكام, و هى حتميا مباريات بلا فائز, سيهلك فيها الطرفان كليهما. أو أن يكون الجيش هو الحكم (غير العادل على الإطلاق) لفترة زمنية لا يعلم مداها إلى الله !!

فى أعقاب إعلان نتيجة المرحلة الأولى من الإستفتاء على الدستور و التى جائت ب(57% نعم مقابل 43% لا) تفاخرت العديد من القوى الثورية بنسبة من رفضوا الدستور معتبرين رفضهم برهانا على ثوريتهم و إنحيازهم لمعسكر الثورة, بل و عد البعض الرفض برهانا على نفور الجماهير من المشروع الإخوانى برمته و ظن كل فصيل (حيث تتكون المعارضة من عدة فصائل غير متجانسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) أن الرافضين إنحازوا لمشروعه. و فى هذه الرؤى مغالطات عدة, فأولا واهم هو ذلك الذى يظن أن كل الرافضين منحازين لمعسكر الثورة, أو أن الرفض برهانا على الإيمان بالثورة و أهدافها, فلا يمكن أن نغفل عن كون نسبة كبيرة من الرافضين هم ممن أعطوا أصواتهم للمجرم أحمد شفيق فى إنتخابات الرئاسة 2012 , بالإضافة إلى كثير من الأقباط الذين صوتوا بناءا على توجيهات من الكنيسة, و لكننا فى الوقت ذاته لا يجب أن ننكر أن عددا ليس بالقليل ممن صوتوا بعدم موافقتهم على مشروع الدستور هم ممن أعطوا صوتهم لمحمد مرسى فى إنتخابات الرئاسة و لكن أعيتهم و خيبت آمالهم تصرفات الرئيس محمد مرسى وجماعته فى الأشهر الماضية و هى تصرفات كثير منها طفولى غير مقبول, بالإضافة إلى بعض من يرضون عن مشروع الدستور ولا تزعجهم مواد العسكر فيه ولا غيرها و لكنهم تصيبهم حالة من الهلع لدى سماع سيرة (التيار الإسلامى), هم ليسوا بمعارضين للمرجعية الإسلامية أو للهوية الإسلامية أو بمعنى أدق لتصورهم هم عن تلك المرجعية, و لكن مخيلاتهم تصور لهم مشاهدا لرجال مقطوعى الأيدى و آخرين مبتورى الأيدى و الأرجل تغص بهم الشوارع, و كأن البلد ليس فيها إلا السارقين و المفسدين!! و يعضد الإعلام على تنمية تلك التصورات فى أدمغتهم عن طريق تصوير كتاب الشريعة الكبير على أنه ليس فيه إلا صفحة الحدود وحدها!

لا أريد أن يفهم من كلامى تنزيها لفريق (نعم) بجملته, أو أن جميع من صوتوا بالموافقة ثوارا أو منحازين لمعسكر الثورة, ولا يمكن إنكار أن جمعا كبيرا منهم صوت بالموافقة واهما أنه يختار حكم الشريعة الإسلامية أو أنه يصوت بالموافقة على ((أفضل دساتير العالم)) - مثلما قيل - دون أن يقرأ من ذلك الدستور حرفا, و الكثيرون صوتوا بناءا على توجيهات فوقية مثلهم مثل من صوت بناءا على توجيهات فوقية من الأقباط.
و بهذا يتضح لنا أن الكثيرين سواء فى معسكر (نعم) أو معسكر (لا) لم يكونوا يصوتون على الدستور و مواده بل كانوا يصوتون على (القوى الإسلامية) قبولا أو رفضا . . و التعميم مرفوض بالطبع فهناك من قرأ الدستور و إستحسن مواده فوافق عليه, و هناك من سائته المواد فرفضه, و لكنى أحسب أن هؤلاء يمثلون الجانب الأقل من عدد من صوتوا . . . و الله أعلم.

الدستور ليس بداية مسار التغيير كما أنه ليس نهايته, فالمسار ما زال طويلا, و إعتمادنا فى التغيير لا يمكن أن يكون على الدستور أو أى من آليات التغيير من الأعلى, فالقاعدة الثابتة فى تاريخ النشاط الإنسانى أن التغيير الحقيقى يبدأ من الأسفل, من حيث تكمن الإشكالية. و أى تغيير يتم فرضه من الأعلى هو مجرد غطاء ظاهرى سطحى زائف للباطن الذى لم يتغير.
و عندما أقول أنى لو كان لى حق التصويت لقلت (نعم) فهذا ليس من منطلق كونه دستور الثورة أو دستور إسلامى, فأنا أوقن أن هذا الدستور ليس بالدستور المأمول الذى يعبر عن أحلام الملايين الذين خرجوا يطالبون بالحرية و العدالة و الكرامة, و لست أرى أن هذا الدستور دستورا إسلاميا يطبق الشريعة الإسلامية. و كثير من مواده أختلف معها و على رأسها مواد العسكر. و لكنى أرى أنه يمكن الضغط على البرلمان لتعديل المواد المختلف عليها, أما التصويت بلا فكان سيدخلنا فى حلقة مفرغة, إذ ستنتخب الجماهير جمعية تأسيسية جديدة تأتى مجددا بأغلبية إسلامية فتحتج القوى المدنية و تنزل الشارع من جديد ويعاد إنتاج الصراع ربما بشكل أكثر عنفا! 
كما أنى أدرك أنه لا يوجد شيئا يسمى التوافق فى السياسة, فلا توجد دولة قامت بالتوافق و لا دستور أقر بالتوافق إلا فى حالات نادرة للغاية.
هذا الدستور نتاج ل(محاولة) الإستفاقة من الغفوة العقلية و التحرر من الإستعمار العقلى الذان خلفهما النظام السابق, نتاج للمحاولة و لكنه ليس نتاج للإستفاقة و لا للتحرر لأنهما لم يحدثا بعد, و عندما ننجح بعون الله فى الوصول إلى تلك المرحلة فستكون النتائج مختلفة بالكلية! هذا إذاً طريقنا, العمل على (تثوير) العقول و تحريرها من رواسب التنشئة و قيود التبعية.
أما عن المشهد الحالى فإنى أرفض بأى شكل من الأشكال الإعتراض على نتيجة الإستفتاء - إلا فى حالة ثبوت حالات تزوير منهجى يؤثر على النتيجة العامة - فهذا كما أشرت سيجرفنا إلى خوض مباريات بلا حكام أو سيرجعنا إلى غياهيب الحكم العسكرى مرة أخرى . . . بالإعتراض على نتائج الإستفتاء نكون قد إنحزنا مجددا إلى العبث الذى ننحاز إليه منذ عامان !!

الخميس، 13 ديسمبر 2012

من هنا نبدأ

دائما ما كان يؤرقنى هذا السؤال و يقض مضجعى, فهذا السؤال كان بمثابة الحائط - الذى لا نهاية له عرضا و طولا - الذى أصطدم به عقب كل محاولة للتفكير فى إجابة سؤال آخر هو (ما العمل؟) يقودنى هذا مباشرة للتفكير فى سؤال من أين تُبدأ عملية الإصلاح؟ و من المنوط به أن يبدأها؟!
إن الخطوة السابقة على هذا السؤال هى طرح الإشكالية طرحاً كاملاً و دراستها دراسةً كليةً دقيقةً و تناول كل جوانبها بالتحليل الموضوعى و إستقصاء النتائج منها و العمل على إيجاد الرابط بينها و بين غيرها لتكوين صورة شاملة كلية و هى خطوة أحسب أن المجهود الذى بُذِل فيها مجهودا عظيما, تترتب على تلك الخطوة خطوة طرح الحلول الموضوعية لجميع الجوانب التى تمت دراستها و تناولها بالتحليل الدقيق, و هى خطوة أحسب أيضا أنها قد بٌذِل فيها مجهودا كبيرا, و كلما فكرت فى هذه الأمور باغتنى سؤال من أين تُبدأ عملية الإصلاح؟
بالطبع إنها يجب أن تكون حيث يوجد الخلل, فى أفكار المجتمع و تصوراته.

لقد كانت إحدى أهداف الغزو الثقافى و الإستعمار الفكرى الأساسية تصحير التربة الفكرية و الثقافية فلا تخرج نبتة جديدة فى هذه الأرض إلا و تكون نبتة مسرطنة أو مشوهة, ولا ينجو من ذلك التشويه و السرطنة إلا ما رحم ربى, و لا تبقى و لا تنمى إلا الأفكار الغاربة المُستعمِرة التى تحقق غايات المُستعمِر فى طمس هوية الشعب المُستعمَر و تغيير أفكاره و قيمه و أخلاقياته و إحتلال عقله و وجدانه. و جعلها تتسلل إلى عقله عبر النخب الحاكمة أو المناهج الدراسية أو الأجهزة الإعلامية  أو الأقلام و العقول المؤيدة للمُستعمِر الواقفة فى صفه العاملة على تحقيق أهدافه, فتقتحم تلك الأفكار العقول عن طريق المجلات و الصحف و الكتب و المسلسلات و الأفلام!
و بذلك ينجح الغزو الثقافى فى الوصول إلى هدفه فى إخلاء المناخ الفكرى أو سرطنته أو تشويهه!
عقود من هذا الركود الثقافى و تصحر التربة الفكرية و تراكم رواسب التنشئة فى ظلهما كانت بدون أدنى شك أحد أهم العوامل المؤدية لحالة التأخر الحضارى و الهزيمة الواقعة على الأمة.

من أين يجب أن تُبدأ إذاً عملية الإصلاح و من المنوط به أن يقوم بتلك العملية المعقدة؟ و ما آلياتها؟ و متى تبدأ؟ .. ظلت تلك الأسئلة تجول بخاطرى و تستحوذ على قدرا عظيما من تفكيرى إلى أن وصلت إلى ما أحسبه جوابا لها ..
فى البدء إن تغيير أو إصلاح الأوضاع لا يمكن أن يكون مجرد تبديل الأنظمة و الحكومات و الدساتير و القوانين, فذاك عمل يسير إذا أرادته الشعوب, ولكنه لا يعد تغييرا حقيقيا للأوضاع. فطريق الإصلاح لا يمكن أن يكون أبداً من أعلى, إن طريق الإستيلاء على السلطة بأية وسيلة ثم البدء فى عملية الإصلاح هو طريق مسدود..واهم من يظنه طريق الصواب, ففساد السلطة ليس إلا عرضا للمرض الحقيقى الذى هو فساد الأنفس و إستعمار الألباب, و البدء من أعلى يتغافل حقيقة أن المشكلة الحقيقية موجودة بالأسفل, موجودة فى العقول و الأفكار و التصورات, أما ذلك الفساد بالأعلى إنما هو عرضا لفساد الأفكار سيزول بزواله. و لكن فساد الأفكار لن يزول بزوال فساد السلطة.
إذا فالطريق لا يبدأ بالإستيلاء على السلطة.

إننا يجب أن نبدأ من حيث تبدأ عملية الإستعمار العقلى للإنسان, من المدرسة, المدرسة تعد الخلية الأولى التى تبدأ فيها الأفكار الغاربة فى التسلل إلى العقول, عبر المناهج و المقررات الدراسية  و عبر منهاج و أسلوب التدريس, فالنخب الحاكمة تعمد إلى تلوين المناهج بم يتوافق مع رؤى كل نخبة, و تعمد إلى أدلجة التاريخ و تزييفه أو لى عنقه فى نصوص المقررات, بل و حتى تُؤدلج العلوم الطبيعية!! و كل ذلك ليتشرب النشئ أفكار النخب و أيدولوجياتها!! ذلك بالإضافة إلى أسلوب التعليم العقيم الذى يكون الطالب فيه مجرد متلق سلبى غير فاعل شبه غائب عن المعادلة التعليمية برمتها!!


عملية الإصلاح و التغيير يجب أن تبدأ من ذلك المكان, من حيث تبدأ عملية الإستعمار العقلى, عن طريق التوعية و محاولة صناعة جيل متحرر من قيود الثقافة الغربية و المشاركة فى جهاد الغزو الثقافى بشتى السبل, ليكون هذا الجيل قائد النهضة و صانع الحضارة عن طريق الأفكار التى تزرع فى عقله فتنبت فى المستقبل أعمالا و أفعالا..
و يمكن البدء بإقامة الندوات التوعوية و عقد الحلقات النقاشية و عرض الأفلام الوثائقية على طلاب المدرسة, و تلك مساهمة عظيمة القدر - حتى و إن كانت ضئيلة على المستوى الكمى - فى جهاد الغزو الثقافى و أدواته و العودة إلى هوية الأمة الحقيقية و وضع أول قدم على طريق الإقلاع الحضارى.


الخميس، 15 نوفمبر 2012

الغزو الثقافى و اغتصاب هويات الشعوب

الهوية الثقافية
تتكون الهويات الثقافية للمجتمعات البشرية من عدة عناصر رئيسة تتمثل فى اللغة و الدين و الأعراف و القيم الأخلاقية و التاريخ, و تتباين درجة إنتماء تجمع بشرى معين الى إحدى الثقافات بناءا على توافر (وحدة) كل عنصر من تلك العناصر المذكورة.
و تعد الهوية الثقافية أوسع و أكبر قاعدة للتعريف بالذات, فساكن مدينة القاهرة مثلا يمكن أن يعرف نفسه - من ناحية الإنتماء الثقافى - كمصرى و عربى و مسلم و إفريقى, و ساكن مدينة روما يمكن أن يعرف نفسه كرومانى و إيطالى و كاثوليكى و غربى و أوروبى, و يمكن لآخرين أن يعرفوا أنفسهم على مستويات ثقافية أوسع. و لكن الهوية الثقافية لا ترتبط حتميا بالبعد الإقليمى ; فالثقافة الغربية مثلا تظهر فى أمريكا الشمالية مثلما تظهر فى أوروبا, و تشق طريقها فى غيرها من البلدان التى ما زالت تحتفظ بهويات ثقافية مستقلة.

الغزو الثقافى صنو للغزو العسكرى

قديما كانت البلدان الإستعمارية الكبرى تقوم بعملية الغزو العسكرى للبلدان الأقل تحضرا بغرض إستنزاف مواردها و إخضاعها لتبعية الدول الأكثر تحضرا, و كان سكان تلك البلاد الأصليون يدخلون فى قائمة تلك الموارد المستنزفة, لكونهم - من منظور المستعمر المتحضر - أجناس دنيا من الهمج و البرابرة و الرعاع, و لذا فكان من الطبيعى أن يكونوا أدواتا تستخدم لخدمة الغربى الأبيض المتحضر.
و بمرور الأزمنة لم تتغير غاية الدول الإستعمارية الكبرى فى إستنزاف موارد العالم و إخضاع الشعوب لتبعيتها, و لكن الوسيلة تطورت - و إن لم ينتهى إستخدام الوسيلة الأولى فى كثير من الأحيان - فبدلا من إحتلال الأرض وجد إحتلال العقل, و بدلا من إحتلال الأوطان وجد إحتلال الوجدان و إحتلال الإنسان.
و هذا هو جوهر التفرقة بين الغزو العسكرى الذى يدمر و يخضع بقوة السلاح من الخارج, و بين الغزو الثقافى و الفكرى الذى يدمر و يخضع من الداخل, تخضع الشعوب بمطلق إرادتها الحرة. يقول إبن خلدون : 
"إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها"

الغزو العسكرى عملية إحتلال و إستعمار للأرض بهدف إستنزاف مواردها, عملية تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة و تهتك الأحجبة و تراق الدماء و يتم إجبار المستعمر (بفتح الميم) على قبول رغبات المستعمر (بكسرها)  بقوة السلاح الغاشمة, أما الغزو الثقافى فهو عملية إحتلال و إستعمار للعقل البشرى, و طمس لهوية المجتمع المستعمر دون الحاجة الى قوة السلاح.
و فى أحيان يرافق الغزاة العسكريين طلائع غزو ثقافى, و فى أحيان تأتى طلائع الغزو الثقافى وحدها تستعمر العقول و تدمر و ترسم الخطط لنقل المستعمر (بفتح الميم) عن مساره العقلى مثلما ينقل القطار من خط لآخر.

روافد الغزو الثقافى

الأفكار الغاربة التى يبثها الغزو الثقافى تجد تربتها الخصبة الصالحة لنموها و إنتشارها فى المجتمعات المتصدعة ثقافيا و أخلاقيا الخاوية فكريا, بعض تلك المجتمعات قد لا يكون من السهل إستعمارها عسكريا, و لكنها لديها قابلية للإستعمار على المستوى الثقافى  و الفكرى. و إذا وجدت تلك الأفكار الغاربة مقاومة أو عدم قبول لدى المستعمر (بفتح الميم) ما تلبث أن تتلفح بعباءات ليست لها, فنرى على سبيل المثال إسلاما ليبراليا و آخر إشتراكيا و ثالث يمينيا و رابع تقدميا, و لربما وجدنا إسلاما علمانيا أو إسلاما إلحاديا فى المستقبل القريب.

تسلك طلائع الغزو الثقافى سموتا متنوعة و تشق طرقا عديدة لتحقق أهدافها, منها أن تكون النخبة المتربعة على رأس السلطة مؤيدة و متحمسة و فاعلة و متحركة بحزم فى إتجاه عملية طمس الهوية الثقافية للأمة, و منها أن تورد الأفكار الغاربة عن طريق الأفلام و المسلسلات التلفزيونية فيتوهم الناس أن تلك أمور طبيعية و تلك سنن الحياة و نواميسها. و منها أن تشرع الأقلام و العقول التغريبية فى بث أفكارها فى الصحف و المجلات. و منها أن يفرض المستعمر سطوته على الجهاز الإعلامى بالكلية, و هذا هو أهم رافد من روافد الغزو الثقافى و الفكرى; فالجهاز الإعلامى بشقيه التلفزيونى و الإذاعى له التأثير الأعظم على تشكيل وعى المواطن. فالمواطنون و خاصة ذوى الوعى الضحل يكونون أمام وسائل الإعلام مجرد متلقين سلبيين, فعندما تسيطر الحكومات و النخب على الأجهزة الإعلامية يسهل أن تغير قيم و إعتقادات المواطنين السلبيين عبر التكرار و الإلحاح الدائم بأن كذا و كيت هو الصحيح و هذا و ذلك علينا التخلى عنه.
و بهذا فإن ما يفعله السلاح بقوة غاشمة, تفعله الأجهزة الإعلامية, ولكن الفارق أن فى الحالة الثانية يكون المواطن راض و متقبل بل و مقتنع يقينا بأن هذا الأمر (الذى كان يرفضه من قبل) أمر طبيعى و واجب و لا بد منه.

كما يعد الكتاب المدرسى رافد فى غاية الأهمية من روافد الغزو الثقافى و طمس الهوية و إلغاء الشخصية, فالطالب ينشأ منذ الصغر على أن كذا و كذا و كذا هى الأمور العلمية و الصحيحة, و أن عليه فعلها لكى يصل الى درجة التقدم الموجودة فى الغرب المتحضر.
و يتم تزييف الحقائق التاريخية لتتلائم مع الفكرة المطلوب (تشريبها) للطالب الناشئ.

ففى الدول الشيوعية كان الطالب يتشرب الأيدولوجية من الصغر لينشأ شيوعيا دون تفكير, هناك قول مأثور عن فلاديمير لينين يوضح هذا الأمر و هو "أعطنا الطفل لمدة 8 سنوات و سيصبح بلشفيا للأبد". و فى الدول الرأسمالية يتشرب الطالب ما يتوافق و التوجه الإقتصادى للدولة.

و خلاصة القول أن الغزو الثقافى يدخل إلينا من كل جانب, من الصحف و المجلات و الكتب المدرسية و التلفزيون و الإذاعة!!
و بهذا تكون إرادة التبعية الحضارية و الثقافية نابعة من قلوب الناس و من عقول النخبة الحاكمة, فتتحقق شروط نجاح تلك التبعية (إرادة فوقية و إرادة تحتية).
 يبرر بعض أنصار التغريب الأمر بنفى صفة الغزو عنه, فينعتونه بالتلاقح الثقافى أو حوارا  ثقافيا حضاريا لابد منه,  أو بأن الغرب قد أثبت نجاحه فعلينا اتباعه, أو بأن الثقافة الغربية هى الثقافة (الكونية) و التى يجب أن تسود. 
و هذا كله محض هراء و شعارات واهية ; فأى تلاقح ثقافى هذا الذى ينتج عنه شبابا يجدون صعوبة بالغة فى قراءة نص بلغتهم الأم؟!! أى حوار فكرى هذا الذى ينتج شبابا لا يعرفون شيئا عن تاريخهم سوى القشور الزائفة التى تشربوها فى المدارس؟!!
إنه ليس تلاقحا و لا حوارا و إنما إغتصابا ثقافيا.



الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

العدالة الإجتماعية كبناء أخلاقى و واقع إجرائى (2)

أستأنف فى هذه المقالة حديثى حول قضية العدالة الإجتماعية متناولا فى هذه مفهوم العدالة الإجتماعية فى الإسلام و ستكون هذه المقالة بإذن الله بداية سلسلة مقالات عن هذا الموضوع. 
كانت الفكرة الأساسية و خلاصة المقالة السابقة حول العدالة الإجتماعية هى:- أن إشكالية غياب العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما هى إشكالية ذات جوانب متعددة و بالاستناد الى ذلك لا يمكن حلها وفقا لنموذج واحدى الرؤية, لن تحل بإعادة توزيع الثروة فحسب مع بقاء المنظومة الإخلاقية على فسادها و تعفنها تكاد تعصف بالمجتمع,و لن تحل بإصلاح المنظومة الأخلاقية دون إعادة توزيع عادل للثروة, لن تحل برؤية واحدية, بل لابد من طرح حلولا تشمل جميع جوانب القضية. و هذا المفهوم يمثل القاعدة الأساسية للعدالة الإجتماعية فى الإسلام, فهى وحدة ثنائية القطب.
و الإسلام لكونه نظام و منهاج حياة متكامل يعنَى بتنظيم شئون حياة البشر فى كل المجالات و منها بالطبع المجال الإقتصادى, و لكنه يبين القيم و الأطر الحاكمة لهذا المجال تاركاً التفريعات و التفاصيل للبشر ينظمونها مثلما يتوافق و بيئتهم لأن الحياة الإقتصادية بطبيعتها متغيرة. و هو لا يسير فى الإتجاه اليمينى الرأسمالى ولا الإتجاه اليسارى الإشتراكى, و إنما يشق طريقه الخاص.
و يخلق الإسلام علاقة توازن بين الفرد و المجتمع فهو الذى أنشا فى المدينة المنورة منذ مئات السنين مجتمعا قائما على عدل إجتماعى راسخ, مجتمع ما كان أحدا ليحلم به.

العدالة الإجتماعية فى الإسلام بناء أخلاقى و إجراءات واقعية.
أما البناء الأخلاقى فيقوم على ركيزة أساسية هى التحرر الوجدانى الكامل, أى تحرر النفس من الخضوع, فقد وضع الله من التشريعات و المبادئ ما يكفل للإنسان إحتياجاته الأساسية و أهم تلك المبادئ هو المساواة الإنسانية الكاملة حيث لا تفرقة بين البشر, حيث لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى, حيث الناس سواسية كأسنان المشط. و المبدأ الثانى هو مبدأ التكافل الإجتماعى و هو إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض, فكل فرد عليه مسؤولية تجاه المجتمع "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته" و ليس هذا التكافل هو مجرد الشعور المعنوى الطيب الحسن و إنما أعمال و أفعال واقعية.
و الإسلام برؤيته المتكاملة يضع على رأس أولوياته قضية إصلاح المنظومة الأخلاقية ; فبقائها على فسادها يستحيل معه تحقق أى شكل من أشكال العدل الإجتماعى, و إن تحقق فهو مجرد صورة زائفة مشوهة..سرعان ما تزول!!

كما يضع القرآن بعض الأطر الحاكمة التى تحكم المجال الإقتصادى و تشكل ركائزا لتحقيق العدالة الإجتماعية, و إن كان لا يتطرق الى ما دونها من التفريعات الجزئية و يتركها لإجتهاد العقل الإنسانى.
و من هذه الأطر و القواعد مبدأ الزكاة, تلك الفريضة الإسلامية التى يصورها البعض فى صورة المنة أو العطف..بينما هى ليست كذلك على الإطلاق, إنها حق و فريضة إسلامية و ركن من أركان الإسلام..هى حق الفقراء فى أموال الأغنياء, ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يمكن للدولة المسلمة أن تأخذ ما تشاء من أموال الأغنياء عن طريق فرض الضرائب التصاعدية من أجل تحقيق التوزيع العادل للثروة.
المبدأ الثانى هو تحريم الفائدة على رأس المال (الربا) فهو محرم بنص قرآنى صريح و توعد الله آكلوا الربا بعذاب شديد "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
كما يحرم الإسلام الإحتكار, و يفرض العمل كقيمة أساسية فى حياة كل فرد.
و يصون الإسلام حق الملكية الشخصية و لكنها ليست مطلقة, الموارد العامة على سبيل المثال ليست قابلة لأن تكون ملكا لأشخاص..و الإسلام يقوض تلك الملكية الشخصية بالواجبات الإجتماعية "كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"

و بالطبع تختلف نظرة الإسلام تماما عن فكرة السوق الحر المتجرد من أى قيمة أو مرجعية أخلاقية, فالسوق الحر معنى بالربح و خفض التكاليف الإنتاجية قبل كل شئ, و فى إطار السوق الحر يصبح كل ما يربح سلعة بداية من الأطعمة الفاسدة مرورا بالمواد الإباحية وصولا الى الأسلحة الفتاكة!!
أما الإسلام فيرفض هذه الرؤية المادية النفعية بشكل قطعى, فالإنسان هو المعنى و ليس الربح, و لذا يمكن إعتباره أخلاقيات إقتصادية و مبادئ أخلاقية أكثر من كونه نظاما إقتصاديا.

ختاما: إنها لمن حكمة الله سبحانه و تعالى و رحمته أنه وضع لنا قواعد و أطر رئيسية و ترك لنا مجالا فسيحا يجول فيه الفكر البشرى ليبدع و ينتج.
و لذا فالمسلمين يجب أن يتطلعوا الى نظام إقتصادى كفْ بمرجعية أخلاقية ثابتة معنى بالإنسان قبل الربح..يحقق العدالة الإجتماعية و يخلق التوازن الإجتماعى.

و للحديث بقية.

الخميس، 4 أكتوبر 2012

نهاية الإنسان

أثناء دفاعه عن نفسه قال أدولف أيخمان (مسؤول كبير بالرايخ الثالث و ضابط بالقوات الخاصة الألمانية) أنه مواطن مخلص, يدين بالولاء المطلق للوطن (ألمانيا النازية) و أنه لم يقم بشئ سوى تنفيذ الأوامر التى تلقاها, و قد نفذها بإتقان شديد و على أكمل وجه. 
و ذلك مثال واضح للعقلية البيروقراطية الرشيدة التى تنفذ ما تؤمر به دون تفكير فى أى شئ, لأن من يفكر قد يخطئ, أما من ينفذ دون تفكير فتكون نسبة خطأه ضئيلة و بالتالى لن يعرض نفسه للعقاب, و بهذا أصبح الموظف البيروقراطى غير مسؤول عما قد ينتج من كوارث كنتيجة لوظيفته التى أداها, فهو مجرد حلقة واحدة و وظيفته حلقة واحدة فى سلسلة طويلة تنتهى بالهدف الذى وضعته الدولة..و الذى قد لا تكون كل حلقة منفردة على علم به.
 تم ترشيد الإنسان فى هذا الإطار النفعى و صياغته ببساطة كموظف بيروقراطى ينفذ دون السؤال عن الغاية أو كمنتج دون السؤال عن هدف الإنتاج أو كمستهلك غارق فى المنظومة الإستهلاكية التى لا تكترث بأية قيم, فكل ما يُربح يدخل فى إطار المُنتجات بما فى ذلك الأسلحة و الأطعمة الفاسدة و المواد الإباحية التى لا يتم التعامل معها من منظور إنسانى أخلاقى و إنما من منظور إقتصادى نفعى بحت منفصل عن أى قيمة و أى غاية, و ذلك الاقتصاد المنفصل عن الإنسان يتجسد فى السوق الحر مثلما يتجسد فى سيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج, ففى السوق الحر يوجد كل ما هو مٌربح إقتصاديا حتى و إن كان مدمر إنسانيا, و بسيطرة الدولة المطلقة على الإنتاج تصبح (مصلحة الدولة العليا) - ذلك المصطلح الفضفاض - هى المطلق الوحيد, و يصبح الإنتاج فى حد ذاته غاية.
و قد سارت عمليات الترشيد (و الترشيد هو صياغة الإنسان و الواقع فى إطار الرؤى المادية) سارت فى طريقين متوازيين يوصلان فى النهاية الى نفس الهدف, و لكن السير فى طريق واحد منهم دون الآخر يجعل الوصول للهدف أمرا مستعصيا, الطريقان هما الترشيد من الخارج و الترشيد من الداخل.

الترشيد من الخارج قامت به مؤسسات مثل الجيش و جهاز الشرطة و المخابرات و الشرطة السرية و غيرها من أجهزة القمع الخارجية الأخرى و من خلال رؤية الإنسان على أنه مجرد مادة إستعمالية تتم عمليات الإنتاج الكثيف فى المصانع على الرغم مما قد يواجه الإنسان من إنهاك, و ما قد يضعف صحته مثل عوادم المصانع, فليس هذا هو المهم, بل الأهمية الكبرى للعملية الإنتاجية بعيدا عن أى قيمة إنسانية’ و بهذا يتم تدمير الإنسان تماما من الخارج.

و لكن هل هذا كاف؟! هل اكتفت المنظومة بالتحكم الخارجى فى الإنسان؟
بالطبع لا, و السبب هو أن ذلك التدمير الخارجى يمكن أن يشعر به الإنسان فيقاومه بكل ما أوتى من قوة, لابد إذاً من عملية ترشيد على نحو مغاير, لا يشعر بها الإنسان فلا يقاومها. عملية ترشيد تحدث بالرغم عنه, كان لابد من التدمير من الداخل, تدمير لا يشعر به الإنسان ولا يدركه.
حدث هذا الترشيد عن طريق المؤسسات الإعلامية و التربوية و إعادة صياغة المناهج الدراسية لتعبر عن رؤية الدولة, و بهذا لم تعد الدولة بحاجة الى أجهزة تستخدم القوة الغاشمة لإرغام الشعب على فعل شئ لا يريده, فالشعب بعد هذا الترشيد الداخلى و تزييف الحقائق سيفعل نفس الشئ و لكن سيكون هذا نابعا من إرادته.
و يقول على عزت بيجوفيتش: "إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة و الراديو و التلفزيون, هى فى الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير. فمن ناحية يوجد مكتب المحررين و هو مكون من عدد من الناس عملهم هو إنتاج البرامج, و على الناحية الأخرى ملايين المشاهدين السلبيين."
و هذا الترشيد المنهجى يستوعب الإنسان تماما داخل المنظومة, كما يتم التدمير الداخلى عن طريق إستيعاب الإنسان داخل المنظومة الإستهلاكية بحركتها الدائمة المتجردة من كل غاية و كل قيمة.
و هكذا فإن كل ما يقوم به الإنسان هو أن ينتج كثيرا ثم يستهلك كثيرا ثم يموت.

و على الرغم من أن كلا الطريقين فى غاية الأهمية من أجل التدمير الكامل للإنسان, إلا أن الطريق الثانى (الترشيد من الداخل) يمتاز بأنه لا يمكن أن يشعر به الإنسان أو يصعب ذلك, كما أن مقاومته أمر فى غاية الصعوبة, فالمقاوم كأنه يقف أمام تيار متدفقا..قاتلا..فيصل الإنسان الى نهايته.
و لكن صعوبة الأمر لا تعنى أن الإنسان يجب أن يذعن و يستسلم للتيار.عليه أن يحاول ألا يتم إستيعابه داخل المنظومة, عليه أن يقاوم تلك العملية, عليه أن يؤمن بأنه ليس مجرد مادة إستعمالية توظفها الدولة فيما تشاء...عليه أن يجاهد عملية تدميره...وذلك الجهاد الأكبر.

السبت، 22 سبتمبر 2012

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

هل تغيير أو إصلاح أوضاع أى جماعة يحدث بمجرد إسقاط الأنظمة و الحكومات المستبدة و إستبدالها بأنظمة و حكومات أخرى؟
و هل تنصلح أوضاع الجماعات إذا تغيرت السلطة و لم تتغير الأنفس؟
هل يمكن أن تكون السلطة هى من يغير الأنفس و يصلح الأوضاع؟

إن تغيير الحكومات و الأنظمة هو عمل سهل إذا ما قورن بالعمل الأكبر و هو تغيير الشعوب, من الممكن - و هو ما نراه يتكرر فى تجارب عديدة - إستبدال مجموعة من الطغاه المستبدين بمجموعة أخرى أقل طغيانا و إستبدادا, و يمكن أن نغير الدساتير و الأسماء و الأعلام و الشعارات, و أن نحتفل بذكرى التغيير العظيم المبارك, و لنسأل أنفسنا, ما الذى أحدثه إستبدال الأنظمة الفاسدة بأخرى أقل فسادا؟ هل إنصلحت الأوضاع؟ هل غاب الظلم؟ هل أكل الجائع؟ هل ارتاح الناس؟
إن طريق الإستيلاء على السلطة ثم بدء الإصلاح هو طريق مسدود!
إذا أراد الناس أن يهربوا من الحقيقة الشاقة فإنهم يوهمون أنفسهم بأن السلطة قادرة على إصلاح أوضاعهم و من ثم يرتاحون و يسكنون و يتركوا السلطة تعمل ما تشاء, فهى القادرة على الإصلاح, فلنرتح نحن, هم سيصلحون!!


إنهم يهربون من المرحلة الأولى و الأساسية و ذات الأهمية الكبرى و الصعبة من التغيير, تلك المرحلة هى تغيير الأنفس, ذلك الجهاد الأكبر. فكما أشرنا سابقا لا يمكن إصلاح أو تغيير أوضاع أى جماعة إذا ما كانت المنظومة الأخلاقية باقية على فسادها تنذر بالعصف بالمجتمع كله فى أى لحظة! و كما أشرنا عند حديثنا حول العدالة الإجتماعية إعادة توزيع الثروة (و هو الحل الأسهل) لن يكون كافيا من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما, فمع بقاء المنظومة القيمية على ما هى عليه, لن يجدى أى حل (إقتصادى)..و أشرنا الى وجوب تقديم نموذج يطرح حلا ثنائيا. إصلاح المنظومة القيمية و إعادة توزيع الثروة.
و هذا الحديث لا يخص مسألة العدالة الإجتماعية بمفردها, بل إنه يسرى على جميع مجالات النشاط الإنسانى.

إن القرآن الكريم يقر بوضوح أن تغيير النفس و إصلاح المنظومة الأخلاقية شرط أساسى سابق على تغيير أو إصلاح أوضاع المجتمعات البشرية, حيث يقول تعالى : "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [الرعد : 11]. فلا يمكن أن تتغير الأحوال أو تنصلح حقا بالحلول السياسية أو الإقتصادية فحسب, بل لابد من نموذج تركيبى, يشمل كلا من الإصلاح الجوانى و البرانى, مثلما يقر القرآن.

و هذا الإقرار قد تأكد عمليا و بوضوح فى العصر الأول للدعوة الإسلامية (عصر صدر الإسلام) فقد كان القرآن طيلة الثلاثة عشر عاما الأولى للدعوة (القرآن المكى) مقتصرا على قضايا العقيدة والإيمان و تأكيد المسؤولية و إصلاح النفس..و بكلمة واحدة (إصلاح المنظومة القيمية), و لم يتطرق الى التفريعات و التشريعات المتعلقة بالقضايا العملية و الأنظمة السياسية و الإجتماعية إلا بعد أن إستوفت تلك القضية حقها كاملا.
ولا يعنى كلامى أن يجلس كل منَا فى منزله وحيدا منعزلا عن المجتمع و يحاول تغيير نفسه فى المنزل, و يصمت على الظلم و القمع و الفساد, إن تمرده على هذه الأوضاع القائمة المخالفة لإنسانيته هو فى حد ذاته خطوة كبيرة فى طريق إصلاح نفسه, إن هذا التمرد على تلك الأوضاع يعد قيمة أخلاقية عظيمة. إن الثورة على الأنظمة الفاسدة و الطغاه المستبدين هى قيمة أخلاقية عظيمة, لأنها تقوم من أجل القضاء على شئ لا أخلاقى (الإستبداد)..و بهذا المفهوم تصبح الثورة عمل أخلاقى و الوقوف ضدها لا أخلاقى و الوقوف على الحياد بين الثائر الساعى للتغيير و صاحب السلطة المستبد هو عمل لا أخلاقى أيضا.


الخميس، 6 سبتمبر 2012

العدالة الإجتماعية كمفهوم أخلاقى و واقع إجرائى

فى تدوينة سابقة حول الموضوع نفسه حملت عنوان "العدالة الإجتماعية" و كنا قد كتبناها بالتشارك أنا و زميلى صلاح سامح. كنا قد قدمنا تعريفا أكاديميا مألوفا للعدالة الإجتماعية بوصفها نظاما إقتصاديا يهدف الى إزالة الفوارق الشاهقة بين طبقات المجتمع.

و لكننى أريد هنا أن أعيد تعريف العدالة الإجتماعية بوصفها قيمة و بناءا أخلاقيا قبل أن تكون نظاما إقتصاديا, مثلها مثل مبدأ الشورى, فهو مبدأ أخلاقى. و هذا يطرح أمامنا مشكلة جديدة فى تقديم الخطوات الحقيقية لتحقيق العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما.

هناك إشكالية لدى الكثير من المهتمين بهذا الموضوع تكمن فى واحدية الرؤية,  فهم يرون الأزمة من جانب واحد, و بالتالى يطرحون حلولا لهذا الجانب فقط متصورين أنهم بذلك يحلون الأزمة برمتها,و لكن هذا النموذج الذى يقدمونه ليس ذو مقدرة تفسيرية عالية قادرة على تحليل الأزمة تحليلا شاملا كليا و بالتالى حلها لأنهم يتغافلون الجوانب الأخرى التى تشكل عوامل أساسية فى الأزمة.
فيقدمون لأزمة غياب العدالة الإجتماعية حلولا مثل : إعادة توزيع الثروة, أو فرض الضرائب التصاعدية, أو غيره من الحلول الإقتصادية مع إغفال أن المنظومة الأخلاقية باقية على فسادها, و على الجانب الذى يبدو مناقضا بينما هو مشابها إذ يقدم حلا واحديا أيضا مثل إصلاح المنظومة الأخلاقية فحسب, و الإدعاء أنه بإصلاحها لن يكون هناك داع لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل و هذا الحل يضعنا فى نفس الدائرة المغلقة حيث لا تحل الأزمة بشكل كلى.

نحن نرى أن هناك ثمة ترابطا بين جميع مجالات النشاط الإنسانى, هناك ترابطا بين النشاط الإقتصادى و الأخلاقى و غيرها من مجالات النشاط الإنسانى, و بالتالى عند محاولة تقديم نموذجا لحل مشكلة ما فى النشاط الإنسانى لابد من رؤية شاملة تقدم حلا أكثر شمولا للأزمة, رؤية تتضمن حلولا لجميع جوانب الأزمة دون إغفال لجانب معين.

فالقول بأن إعادة توزيع الثروة أو فرض ضرائب تصاعدية أو غيرها  من الحلول الإقتصادية ستكون كافية وحدها لحل مشكلة غياب العدالة الإجتماعية فى المجتمع, هو تصور قاصر, فبقاء منظومة القيم الأخلاقية على فسادها و تعفنها يهدد بالعودة (السريعة) الى التفاوت و الظلم الإجتماعى. و هذا النموذج يتوازى مع نموذج آخر يطرح إصلاح منظومة القيم الأخلاقية فى المجتمع كحل نهائى لأزمة التفاوت الشاهق بين طبقات المجتمع.
و النموذجين السابقين قدرتهما التفسيرية منخفضة بعض الشئ إذ أنها واحدية, بمعنى أنها ترى المشكلة من جانب واحد و تقدم حلولا عديدة لهذا الجانب فحسب, فلا تحل المشكلة.

ما أريد الوصول اليه هو أن إشكالية غياب العدالة الإجتماعية فى مجتمع ما هى إشكالية ذات جوانب متعددة و بالاستناد الى ذلك لا يمكن حلها وفقا لنموذج واحدى الرؤية,لن تحل بإعادة توزيع الثروة فحسب مع بقاء المنظومة الإخلاقية على فسادها و تعفنها تكاد تعصف بالمجتمع,و لن تحل بإصلاح المنظومة الأخلاقية دون إعادة توزيع عادل للثروة, لن تحل برؤية واحدية, بل لابد من طرح حلولا تشمل جميع جوانب القضية.

و سأحاول فى تدوينة لاحقة أن أبين الوحدة ثنائية القطب لمفهوم العدالة الإجتماعية فى الإسلام.

الاثنين، 27 أغسطس 2012

الأتباع و السادة و الهراطقة

يوجد ثلاثة أنواع من البشر , أو هكذا أحاول - محاولة قد تصيب أو تخطئ - أن أصفنهم فى هذه التدوينة, النوع الأول أطلق عليه هنا إسم "الأتباع" أو "العبيد" , أما النوع الثانى فهم "السادة" من ملوك و سلاطين و أمراء و رؤساء و أصحاب الجاه و النفوذ, أما النوع الثالث فهم - كما تصفهم كلا من السلطة و أتباعها - "الهراطقة" أولئك الأشقياء الملاعين المتمردين الثائرين.
يوجد نوع من البشر يقدسون الأنظمة الحاكمة, يعشقون النظام و التنظيم الخارجى الشديد, ينظرون للحاكم على أنه مالك رقابهم, و ملجأهم لحظة الضعف, و مجيبهم و منجيهم و مخلصهم , و مانحهم قوت يومهم, و هو الذى بيده حريتهم , يمنحها إليهم عندما يشاء و يسلبها منهم وقتما شاء, قد يركعون أمام السلطان طلبا لمنحته و رضاءه , يحبون دائما أن يتلقوا الثناء من رؤسائهم , فهم يمجدونهم , أولئك الناس يعشقون التنظيم الخارجى الحديدى, تجدهم يفضلون السكن فى الأماكن ذات المنازل المتراصة بشكل منظم ذات الواجهات المتماثلة , إنهم يعشقون التماثل, يريدون أن يكون التنظيم الإجتماعى على أشده , و يبجلون الرقابة , يعملون كالآلات و يتلقون الأوامر كالجنود لا يعصون للحاكم أمرا, إنهم يمجدون الأشخاص و يعبدون الزعماء, و الأفكار التى يخرج بها الزعماء هى - بدون تفكير - أبدع ما أنتجه العقل البشرى !!
إنهم ينفذون كل ما يلقى إليهم من الأعلى, و هم كالنمل أو التحل, ذلك التنظيم الخارجى الحديدى, و فى مجتمع كهذا عندما يظهر عضو مهرطق يهدد أمن المجتمع و سلامة نظامه, وجب بتره و إقصاءه من المجتمع, إما عن طريق عزله فى السجون, أو التخلص منه نهائيا!
أولئك عشاق العبودية ينفون عن الإنسان جوهر إنسانيته, فهم ينفون عنه كونه حرا مسؤولا, بل إنه مجرد عضو فى المجتمع له وظيفة معينة عليه تأديتها دون مماطلة أو معارضة. تلك النوعية من البشر تتمتع بعقلية العبيد أو الأتباع, إنهم ببساطة يحبون أن يكونوا أتباعا لسيد ما, سواء أكان ذلك السيد شخصا أو فكرة, و هؤلاء العبيد يعشقهم النوع الثانى من البشر.

مثلما يحب العبيد أن يكونوا مسودين, يعشق السادة أن يتحكموا فى أتباعهم’ هؤلاء يعشقون العبودية و هؤلاء يعشقون السيادة, الأتباع هم من يعطوا السادة الحكام الأماجد شرعية وجودهم, إنهم يتكاملان كأنهم أجزاء من كل واحد, الأتباع و السادة, الين و اليانغ, الزوج المتوازن.
و بتلك الأفكار التى تعشش فى أدمغة الأتباع فإنهم هم وحدهم من يكفلون للسادة شرعية البقاء, الأتباع يتصورون أنهم بدون السادة حتما سيهلكون بينما تقول الحقيقة أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فالسادة غير فاعلين, وليسوا هم من بيدهم رقاب الأمم و ليسوا هم حماه الحمى, و ليسوا هم من بيدهم حرية الأفراديمنحونها و يسلبونها وفقا لأهوائهم, و هم ليسوا منزهين عن الخطأ فهم أناس عاديون لم يهبطوا من السماء بأجنحة, ولا يقومون بفعل معجزات خارقة.
إن الذين يقومون بالتفكير بهذه الطريقة هم النوع الثالث من البشر.


على الجانب المضاد للنوعين السابقين من الناس, يوجد أناس تصفهم السلطات دائما بأنهم أشقياء ملاعين مشاكسين مدمرين, تصفهم بالهراطقة, و كلمة مهرطق يعود إستخدامها ضد المعارضين الى عهد الإمبراطور الرومانى قسطنطين, و إن الكلمة اللاتينية هريتيكيوس haereticus تعنى الإختيار. لذا فإن المهرطقين هم أولئك الذين إختاروا أن يكونوا ضد السلطة, أولئك فى ثورة دائمة ضد شئ ما, يبحثون دائما عن تلك الحلقة المفقودة, أو المخفية. قد يتحدثون عن الخبز و السلام, و لكنهم سيتحثون أكثر عن الحرية و الكرامة و العدالة, إنهم يبحثون عن الإنسان, هم يعلمون أن حريتهم ليست منحة من الحاكم, ولا قوتهم كذلك, فليس الحاكم من يطعمهم, بل هم يعلمون أنهم من يطعموه أولئك الثائرون المتمردون, على عكس الأتباع, لا يحبون السلطة, و هى تقابلهم نفس المشاعر, تمقتهم, و تحاول دائما التخلص منهم.

" فى الأديان يمجد الأتباع الأشخاص و الأوثان, أما عشاق الحرية المتمردون, فيمجدون الله فحسب " 

الأحد، 22 يوليو 2012

العدالة الإجتماعية

مقال مشترك  بين عمر سليم و صلاح سامح 

مع بدء الموجة الأولى من الثورة المصرية فى يناير 2011 إرتفعت الأصوات المنادية بحق "العدالة الإجتماعية" جنبا الى جنب مع حق "الحرية" و "الكرامة الإنسانية" , تلك الحقوق الراسخة الثابتة لكل البشر , تلك الحقوق التى سلبها الطغاه , أو أوهمونا بأن تلك الحقوق الراسخة منح يمنحوننا إياها وقتما يشاؤون و يمنعوها عنّا وقتما يحلو لهم. العدالة الإجتماعية تعد هى المطلب الأهم و الأكثر إلحاحا من مطالب الثورة المصرية , و ذلك نظرا لسياسات نظام مبارك و حاشيته الرأسمالية الإحتكارية  التى إقتادت أكثر من 40% من الشعب المصرى الى المكوث تحت خط الفقر , فى حين تتركز السلطة و الثروة فى أيدى حفنة قليلة  من رجال الأعمال و كبار رجال الدولة , و إقتصرت الحقوق فى العلاج الآدمى  و المسكن الجيد و التعليم الراقى على الأقلية  , فى حين تقبع الأغلبية فى براثن الجوع و الفقر و البطالة فى إنتظار المصير المدجج بالموت , الموت الذى هو مهربهم الوحيد من بؤس الحياة , لتلك الأسباب كلها ؛ كان تحقيق العدالة الإجتماعية المطلب الأهم للجماهير خلال ثورة يناير.


العدالة الإجتماعية يمكن تعريفها بأنها نظام إقتصادى يهدف الى إزالة الفوارق الطبقية الشاهقة , و تحقيق فرص متكافئة و ظروف حياة متشابهة لجميع المواطنين , و إقامة المجتمع على أسس المساواة و التضامن الإجتماعى , العدالة الإجتماعية هى البناء الأخلاقى و السياسات الرامية الى المساواة فى الحقوق و هى فى الأساس إتجاه نحو مجتمع أكثر عدلا , تسليما بأن هناك دائما ظلم , يمكن تصنيفها كاليوتوبيا أو كخطوة فى مسيرة أكثر واقعية من اليوتوبيا.



و قد تختلف الرؤى حول مفهوم العدالة الإجتماعية و كيفية تحقيقها إختلافا كبيرا بين ألوان الطيف السياسى , فيمكن تعريف العدالة الإجتماعية من وجهة النظر الليبرالية على أنها تحقيق تكافؤ الفرص و سيادة القانون فى ظل سياسة الإنفتاح و حرية السوق , و يدعون حماية النشاط الإقتصادى من الهيمنة و الإحتكار عن طريق تدخل الدولة فيه , و يؤكدون على أن حرية إنفتاح السوق للاستثمار فى ظل وجود الدولة كمشارك هو الطريق نحو تحقيق العدالة فى التوزيع.
أما العدالة الإجتماعية من المنظور الإسلامى , أو كما يراها المفكرون الإسلاميون فتقوم على ركائز ثلاث , هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع و عبادة الله فقط فلقد وضع الله من القوانين و التشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية و بالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل و من أهم هذه القوانيين هو وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مباديء الإسلام , و الكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم أما القانون الثاني الذي وضعه الإسلام لضمان التحرر الوجداني الحقيقي فهو التكافل الاجتماعي. والتكافل الإجتماعى يقصد به إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع و مصالحه. و ليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوى من شعور الحب و المودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج و تأمين حاجته بما يحقق له حد الكفاية. و ذلك يكون عن طريق دفع الزكاة، فإن لم تكفي فيؤخذ من الأغنياء ما يكفي للفقراء , كما يرون أن تطبيق الحدود كحد السرقة سيساعد على تحقيق العدالة الإجتماعية.

إن تحقيق العدالة الإجتماعية لا يمكن أن يحدث بتعديلات فى الدساتير و القوانين , ولن تكفى إجرائات مثل وضع الحد الأدنى و الحد الأقصى للأجور و فرض الضرائب التصاعدية فقط , و إنما لن يحدث هذا الى بثورة إجتماعية حقيقية و ملكية جماعية لوسائل الإنتاج و توزيع عادل للثروة.

السبت، 7 يوليو 2012

الحرية فوق القانون


تصاعدت فى الأونة الأخيرة نبرة غريبة من الحديث حول الحريات العامة , حيث شرع البعض فى إعتبار حرية الصحافة و حرية الإبداع نوع من المنحة التى يمن بها الحاكم على الشعب , فطفقوا يطالبون رئيس الجمهورية المنتخب حديثا بعدم المساس بحريتى الصحافة و الإبداع , و كأنه يحق له من الأساس أن يمنع الكاتب عن التعبير عما فى لبه , أو أن يمنع المبدع عن تقديم إبداعه , هذه حقوق إنتزعناها و ليس بمقدور أى حاكم أن يسلبها أو يفكر بالإقتراب منها , ليس لأن السلطة ضعيفة و غير قادرة , فقد مارست ذلك مدة طويلة , و لكن لأن ذلك لم يعد مسموحا به.


ولكن تقييد الحريات يمكن تقنينه من خلال وضعه فى إطار الدستور و التشريعات , فيصبح منع الحريات أمرا شرعيا يحميه الدستور و القانون , فقد رأينا كيف عرضت لجنة الحقوق و الحريات العامة و الواجبات بتأسيسية الدستور إقتراحا للمادة المتعلقة بالأديان و الحريات الدينية ينص على " حرية العقيدة مطلقة , و تكفل الدولة حرية إقامة  إقامة الشعائر الدينية لأصحاب الديانات السماوية " و هو نص يخالف إلتزامات مصر الدولية فيما يتعلق بحرية الدين و المعتقد المنصوص عليها فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان و العهد الدولى للحقوق المدنية و السياسية (مادة 18) و نصها كالآتى " لكل الشخص الحق فى حرية التفكير و الضمير و الدين , و يشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته , و حرية الإعراب عنهما بالتعليم و الممارسة و إقامة الشعائر و مراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع جماعة" كما يتعارض مقترح لجنة الحقوق و الحريات بالجمعية التأسيسية مع الميثاق الإفريقى لحقوق الإنسان (مادة 8) و التى تنص على " حرية العقيدة و ممارسة الشعائر الدينية مكفولة و لا يجوز تعريض أحد لإجراءات تقيد ممارسة هذه الحريات مع مراعاة القانون و النظام العام " .كما يتعارض أيضا مع إلتزامات مصر الدولية أمام المجلس الدولى لحقوق الإنسان. فكون نص المادة المقترحة من لجنة الحريات تكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية و إقامة دور العبادة لأصحاب الديانات السماوية فقط , يكبل حرية أصحاب الديانات الأخرى فى ممارسة شعائرهم الدينية. و هذا الموقف مثال واضح على تقنين الإضطهاد و تقييد الحريات العامة.

ثم يظهر على الساحة مجددا بعض العنصريين الذين يرون أن أصحاب الديانات الأخرى من أمثال البهائيين , لا يحق لهم أن تذكر دياناتهم الحقيقية فى وثائق إثبات الهوية مثل البطاقات الشخصية أو جوازات السفر. و هذا لأنهم أصحاب ديانات غير سماوية و لا يجب الإعتراف بهم كمواطنين , أو يمكن تصنيفهم كمواطنين منقوصى الأهلية. وهذا يتعارض مع أحقية كل إنسان فى الإعتراف بشخصيته القانونية أينما وجد.

نوع آخر من تقييد الحريات هو منع بعض ضباط الشرطة الذين يرغبون فى إطلاق لحاهم من تحقيق ما يريدون , بدعوى أن إطلاق اللحية يعبر عن إتجاه سياسى معين , و لكن الذى يدحض هذا المنطق , أن اللحية لا ترتبط بأى إتجاه سياسى , كما أن صاحب أى رؤية أو أى معتقد لن يغير معتقده و لن يتخلى عن رؤيته بمجرد إزالة الشعر الكث الذى يجثم على ذقنه. فالمظهر لن يغير فى الأفكار شيئا , و لكن الأفكار هى التى قد تغير فى المظهر. فلكل فرد الحق فى إعتناق الآراء دون أى تدخل و الظهور بالمظهر الذى يريد.

ختاما , حتى و إن لجأت السلطات المستبدة الى تقنين تقييد الحريات عن طريق وضع هذا التقييد فى إطار دستورى قانونى , فإن الحرية ستظل فوق القانون.


الأربعاء، 27 يونيو 2012

حول النخبة

فى كل المجتمعات ثمة مجموعة من المثقفين و المفكرين و الكتاب و الأدباء يطلق عليهم إسم النخبة أو الصفوة , و المتعارف عليه أن تلك النخبة تكون هى الأكثر قدرة على تقديم تحليلات تسبر أغوار المشكلات التى تواجه المجتمعات و تلقى بظلالها على مستقبل الشعوب , و من المفترض أن تكون تلك النخبة قادرة على طرح حلول موضوعية واقعية و جذرية للمشكلات و الأزمات , كما أنه من المفترض أن الأفكار و الأطروحات التى تخرج عن النخب تتسم بالطابع التقدمى , و قد أوهمونا قديما أن تلك النخب هى التى تفجر الثورات أو التى تقود الشعوب إبان الثورات.
و ثمة رؤية أخرى للنخبة , و هى رؤية العوام الذين يرونها على أنها مجموعة من الكائنات تعيش على كوكب عاجى و تثرثر بما لا يفهمه العوام و لا يدخل فى دائرة إهتماماتهم من الأساس.

و إذا أردنا أن نوجه نقدا و تحليلا موضوعيا للنخبة , علينا أن نعترف فى البدء بأن من أهم مشاكل النخب هو كونها متقوقعة على ذاتها تعيش حقا فى كوكب عاجى بعيدا عن أرض الواقع و عن متطلباته. غالبا ما تتكون النخب السياسية من أبناء الشرائح العليا فى الطبقة الوسطى أو الطبقة العليا , فهى الطبقات المتاح إليها أن تتعلم تعليما على مستوى عال, و هم المتاح إليهم السفر إلى هنا و هناك, و هم المتاح إليهم الإتصال بكبار المثقفين و المفكرين و التتلمذ على يد هذا أو ذاك  وهم  المتاح إليهم أن يقتنوا الكتب النادرة ؛ و هذا الوضع الإجتماعى له دلالته الواضحة على مواقف النخب.

و فى مصر كباقى الدول توجد تلك النخبة السياسية , و لكنها ينطبق عليها حرفيا الرؤية الثانية للنخب فهم مجموعة من الناس يثرثرون بكلام لا يهم العوام , ثم أنهم و إن تحدثوا و حاولوا تقديم الحلول لا يقدمون إلا هرائات سطحية , كما أننا نجد أغلبهم يرتمى فى كنف السلطة , حيث أن الثورة أو التغيير لا يمثل لهم حلما و ليس فى مساعيهم لأن وضعهم  الإجتماعى الذى أشرنا إليه ليس فى حاجة الى تحسن , بل ربما تؤدى الثورة الى العصف ببعضهم من تلك المناصب الى يتبوؤنها أو الأوضاع التى يعيشون فى ظلها لذا نجد أغلبهم يفضل بقاء الأوضاع على ما هى عليه..إستبدال الحاكم الإستبدادى بآخر أكثر ديموقراطية أو أقل ديكتاتورية..أو دخول أطرافا جديدة داخل معادلة السلطة دون المساس بالقواعد ؛ فذلك - بالنسبة إليهم - خير و أبقى , لذا رأينا جمع كبير من نخبتنا التى تدعى المدنية و العلمانية و التقدمية يرحبون بالإعلان الدستورى المكمل المتمم لإنقلاب فبراير بوصفه الضمانة الوحيدة لحماية مدنية و علمانية الدولة !! 

نخبتنا تطرح أفكارا و حلولا بالية لأنها تفكر داخل الصندوق أو داخل الدائرة , و حركة تفكيرها هى حركة دائرية حول محور ثابت متسم بالجمود , حركة دائرية تتسلى بالعبث اللامتناهى , حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار الأبدى. فى غيبوبة ذلك الدوار تختفى جميع الأشياء الثمينة و تموت كل المبادئ و تنحط الى أخس أنواع الإنتهازية و الإنهزامية. تباع المبادئ - إن وجدت - مقابل حفنة من المال أو وضع إجتماعى راق.
إن المبادئ التى تباع هى بالقطع مبادئ رديئة.

يبدو أن حل تلك النخبة هو الذى قدمه المبدع نجيب محفوظ فى خاتمة رواية ثرثرة فوق النيل , عندما فك سلاسل العوامة و ترك المثرثرين يثرثرون كما يحلو لهم و لكن فى العزلة.




الأربعاء، 20 يونيو 2012

الجيل الثائر

أتحدث اليوم عن الجيل الثائر الذى أفتخر بكونى منتميا له بعد أن نعته أحد مقدمى البرامج التليفزيونية المعروفين بأنه جيل مستحدث سياسيا.
الجيل الذى أنتمى إليه هو جيل نشأ و ترعرع فى خضم حالة من الركود الفكرى و الثقافى خيمت على المجتمع المصرى و ألقت بظلالها على مستوى الوعى السياسى و الإجتماعى لدى العديد من بنى جيلى; فخرج كثير منًا غير مهتم بإبداء رأيه فيما يدور حولنا من أحداث تتعلق بمسقبلنا, وبالطبع كان لنظام التعليم الفاشل الذى لا يوسع من مدارك و أفق الطلاب دور محورى فى ذلك.

ولكننا فى خضم هذه الظروف المحيطة بنًا من وجود سلطة ديكتاتورية قمعية و تفشى حالة من الركود الفكرى و الثقافى, طفقنا نحن جيل الشباب نعلم أنفسنا بأنفسنا, نحاول إزالة شوائب ذلك الركود العالقة بأذهاننا و نحاول تنقية أدمغتنا من رواسب التنشئة و عوائق اللاوعى, طفقنا نحاول توسيع مداركنا و توسيع أفق تفكيرنا و نحاول كسب المعرفة الشاملة بأمور عديدة و تسليح عقولنا بأفكار ثورية تخرج بنا من دائرة الصراعات السلطوية و الصراعات النخبوية, أفكار نبنى بها جيل قادر على مواجهة السلطة القمعية المستبدة, أفكار لا تموت لأنها مضادة للرصاص.

سلكنا طرق عديدة لننمى ثقافتنا و نوسع مداركنا, أهم هذه الطرق كان القراءة و قد ساعدنا على ذلك إنتشار كافة أنواع الكتب على الإنترنت, كما أتاحت لنا مواقع التواصل الإجتماعى فرصة للتواصل مع غيرنا من المؤمنين بالأفكار الثورية فشرعنا نستفيد منهم و يستفيدوا منّا و نطور أفكارنا من خلال الحوار الفعَال معهم, و كنا نستفيد من النقاش معهم, و فى أحيان كثيرة كانوا يشجعوننا على قراءة المزيد من الكتب المفيدة.

نسعى نحن جيل الشباب الثائر الذى يحاول البعض تهميشه الى تحويل تلك الأفكار التى آمنا بها و رسخت فى أذهاننا الى واقع نراه يتحقق أمام أعيننا, تلك الأفكار المناهضة لسلطوية الأنظمة الحاكمة و الساعية الى خلق حياة أفضل للبشر, حيث لا إستبداد و لا إستغلال, حيث الناس السعداء, و قد أخذنا على عاتقنا مهمة حمل راية النضال متسلحين بأفكارنا قبل كل شئ. و سنصل حتما الى ما نريد.

السبت، 2 يونيو 2012

سلطة الشارع


مقالة مشتركة بين فارس أنس و عمر سليم  :
في خضم هذه الأوقات العصيبة و بعد صدور الأحكام المخزية- في قضية قتل الثوار- فى نظر كثير من الخبراء و الفقهاء القانونيين و في نظر الشارع و أهالي الشهداء , نرى الشارع ينتفض في مسيرات و مظاهرات حاشدة فى كل المحافظات إعتراضا على تلك الأحكام الهزلية , و السمة التى نراها فى تلك الإحتجاجات أنها مثلها مثل أسلافها تحدث بشكل عفوى نتاجا لتراكم الضغوط السلبية على قطاعات واسعة من الجماهير, و من المعلوم أن الأزمة الإجتماعية إما أن تؤدى الى انتفاضة جماهيرية واسعة, أو تؤدى –على العكس تماما- الى حالة من الإحباط و اليأس لا يتحقق معها فعل إيجابى. و لكن تفاقم الأزمة الإجتماعية فى مصر ثم الحكم الهزلى فى قضية قتل الثوار أدى الى حالة من السخط الشعبى العارم, لتثبت الجماهير مجددا أنها أرادت و ستظل تريد إسقاط هذا النظام و القضاء عليه.
 و في رأى البعض أن هذه الاحتجاجات لا أهمية لها و أنها لم تعد تؤثر و هذا رأى في الحقيقة صحيح , فالسلطة أصبحت لا تعير أهمية لهذه التحركات و أصبح المجلس العسكري يُنهى كل حدث إحتجاجى بفض للاعتصام و أحيانا تنتهي بمجزرة مثلما حدث فى محمد محمود, و مجلس الوزراء و ماسبيرو و أخيرا فى العباسية.
 إعتدنا فى المرات السالفة أن تخرج الجموع عن بكرة أبيها فى مسيرات و مظاهرات تجوب الشوارع ثم ينتهى بها المطاف فى ميدان التحرير ثم يعود الناس الى بيوتهم و كأن شيئا لم يكن, و لهذا أسباب عديدة, على رأسها غياب التنظيم أو الكيان الثورى الحقيقى القادر على تنظيم صفوف الجماهير خلال المعارك, إضافة الى ضعف ثقة الجماهير فى القيادات و النخب التى تطفو على السطح حاليا.
و الحركة الشعبية العفوية أثبتت على مر العصور قدرتها على إسقاط النظم الإستبدادية مثلما حدث فى روسيا فبراير 1917 و الماين و النمسا و المجر فى 1918 و فى إيران 1979

و هنا يطرح السؤال الهام نفسه: (ما العمل؟) أو ما الحل الواقعى؟

الحل فى بناء سلطة جماهيرية موازية لسلطة العسكر و هذا الطرح كان موجودا بقوة أثناء المعارك الدائرة فى شارع محمد محمود, و إذا ما تحدثنا عن سلطة بديلة أو موازية, فإننا نضحى بصدد تساؤل آخر أكثر عمقا: ما هى الأشكال التى من الممكن أن تتخذها هذه السلطة البديلة أو الموازية لسلطة العسكر؟ يوجد أكثر من شكل لهذه السلطة, و الذى يحدد نوع هذه السلطة و شكلها هى الجماهير التى تشكلها فى الشارع, و لكننا هنا نسرد بعضا من الأشكال المتعارف عليها لهذه السلطة, أكثر الأشكال المتعارف عليها و التى يتداول الحديث حولها هو المجلس الرئاسى المدنى , ولكن ما هو مجلس الثورة ؟ و من هم أعضائه ؟؟ و ما فائدته الآن ؟ 
مجلس الثورة هي قيادات ثورية متفق عليها من الشعب و لن يختلف عليها أحد لأنها تجمع الأطياف السياسية جميعها , و فائدته فى هذه الظروف هو صنع قوة موازية للحكومة الحالية , و هذا سيؤدى إلى صراع السلطتين و ستنجح سلطة واحدة فقط فى الظفر فى النهاية.ولكن ماذا لو رفض مرشحوا الرئاسة الاتحاد ؟  فيجب انتتنحد الحركات ويشكلوا مجلس تنظيمي لحركة الثوار قادته من كل حركة شخص. 
 و لكن ما نريد أن نطرحه هنا, أن فكرة المجلس الرئاسى ليست هى الحل الأمثل للمشكلة, و ليس المجلس الرئاسى هو الطرح الأفضل لسلطة بديلة موازية قادرة على مواجهة السلطة القائمة, فالمجلس الرئاسى يظل سلطة فوقية و سيكون تشكيله من عدد من الأشخاص البارزة و لكنه يظل فى النهاية حكما للأقلية حتى و إن كانت أقلية ثورية.
 الطرح الأفضل لسلطة بديلة قادرة على مواجهة سلطة العسكر هى السلطة التى تتشكل فى الشارع و تخرج من الشارع و تمثله بشكل حقيقى, السلطة التى تتمثل فى مجالس و لجان شعبية منتخبة فى إنتخابات حرة مباشرة فى المصانع و الأحياء و القرى و المدن و المحافظات.
 سلطة تكون قادرة على قيادة الجماهير الى تقويض النظام و مؤسساته الفاسدة, سلطة تدخل فى صراع قوى مع سلطة العسكر لتنتصر إحدى السلطتين فى النهاية . و لكن للأسف هذه الفكرة تحتاج إلى تيار يسارى ثورى له قاعدة شعبية كبيرة فى الشارع و هذا التيار ليس متوفر للأسف فى مصر

                                                        الحل فى الشارع و سلطته.



الاثنين، 28 مايو 2012

يسقط الرئيس القادم

تتصاعد الآن نبرة جدلية فى أوساط الرأى العام المصرى, فالمواطنون مشتتو الأّذهان حيارى بعد أن جائت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية صادمة لقطاع عريض من الشعب المصرى آثر ألا يكون صوته لمرشحًى الثورة المضادة, و قطاع أعرض آثر ألًا يدلى بصوته من الأساس فى تلك المسرحية الهزلية التى استغلها جيش الثورة المضادة من رجال أعمال الحزب الوطنى بطريقة ممنهجة مدروسة أنفق عليها جيش الثورة المضادة بسخاء لكى يحافظ على امتيازاته و مكاسابه.


قطاع عريض من الشعب المصرى حائرو مشتت , و كأنه يضرب فى الفيافى هائما, أيمتنع عن المشاركة فى تلك المسرحية الهزلية المقصود منها اجهاض الثورة تماما و نهائيا, أم يذهب ليدلى بصوته لأحد مرشحًى الثورة المضادة فيعطيها بالتالى الشرعية الشعبية و القوة اللازمة للقضاء على الثورة. وبافتراض أنه آثر الذهاب تحت دعاوى أن المقاطعة فعل سلبى ( و هى دعاوى تعبر عن سذاجة شديدة و ضيق أفق لا متناهى) فلمن يعطى صوته؟؟! من يختار من بين قطبى الثورة المضادة؟؟!


أيختار الجنرال العسكرى أحمد شفيق رئيس وزراء مصر إبان موقعة الجمل الدموية الذى خلعته الثورة من رئاسة الوزراء فى مارس 2011, أحمد شفيق الجنرال الذى ما لبث يتوعد الثوار بالتنكيل بهم و بقمعم بأبشع أساليب القمع حال فوزه برئاسة الجمهورية بل و وصلت الصفاقة به الى أن أعلن بكل سفور عن أن الإعدام و القوة المفرطة سيكونا آلياته من أجل استعادة الأمن خلال الشهر الأول من حكمه..ياللوقاحة!!

أم يهرب من دبابات الفاشية العسكرية و مدافعها ليرتمى فى أحضان فاشية أخرى مقنعة هى فاشية الإخوان المسلمين مسلما إياها كل المفاتيح لتسيطر بشكل كلى على مقاليد الحكم فى البلاد ومعطيا إياها الفرصة لبناء سلطتها المطلقة, سلطة مرشدها الأعلى.


بعض الناس من الذين قرروا دعم أحمد شفيق, يقدمون الجنرال المخلوع من رئاسة الوزراء بصفته مرشحا علمانيا سيعمل على الحد من نفوذ التيار الإسلامى و هو أيضا يقدم نفسه على هذا النحو, ومن  جهة أخرى يحاول البعض تبرير إختيارهم لشفيق بقولهم أنه مرشح منفرد مستقل نقدر على عزله و إسقاطه إن أردنا فى حين أن الإخوان منظومة قوية يصعب إزاحتها عن سدة الحكم إن وصلت. 
و هذان الطرحان يشوبها خلل كبير, فعن أى علمانية يتحدث شفيق و هو يعلن بصراحة أن تشكيل الحكومة سيكون من نصيب حزب الأغلبية (الحرية و العدالة-الإخوان المسلمون)هذا بخصوص الطرح الأول الذى ضحده شفيق بنفسه, أما عن الطرح الثانى فإنه طرح ساذج لا يخرج إلا من عقلية ضيقة الأفق و هى عقلية اولئك الذين يدعمون الجنرال.


و على الجانب الآخر يطرح الدكتور محمد مرسى رئيس حزب الحرية و العدالة نفسه كمرشح الثورة بل ويذهب الى أبعد من ذلك معلنا أنَه ليس مرشح جماعة الإخوان المسلمين و إنما هو مرشح المصريين بكل طوائفهم (قول و المصحف!!) أى أن الرجل سينسلخ عن تاريخه فجأة!!


كل من المرشحين له جيشه الذى يقف خلفه, فشفيق لديه جيشه من كبار رجال الأعمال و تنضم إليهم البرجوازية الصغيرة من أصحاب متاجر صغيرة و عاملين بالسياحة و الذين يرون فى الإرتماء فى أحضان الفاشية ملاذا أخيرا لهم. 
وعلى الجانب الآخر يتكون جيش مرسى من تنظيم قوى للجماعة قادرعلى الحشد على الرغم من إنخفاض درجة قبول الشارع للجماهة بعد فشلها فى تقديم إصلاحات عبر البرلمان.


فلنترك الجيشين فى صراعهما السلطوى الذى لا يعير مصالح الجماهير إهتماما, فلنتركهما فى تصارعهم و تكالبهم على السلطة و لنعمل نحن على الانتصار فى معركتنا الأساسية..مع الجماهير..فى الشارع.

الجمعة، 18 مايو 2012

المقاطعة..و تطوير الخطاب الثورى

أيام قلائل تحول بيننا و بين الدخول فى مرحلة جديدة يعدها البعض المرحلة المرتقبة التى طال انتظارها, فبعد سنين من الاستعباد و الاستبداد سيصبح للمصريين حق إختيار من يحكمهم بصورة ديموقراطية نزيهة, يتصورون أنه بعد عقود من حكم العسكر و سيطرة طبقة رجال الأعمال و كبار الضباط على السلطة و الثروة, ستتحول البلاد فجأة-و ياللعجب-الى حكم رئيس مدنى منتخب فى خطوة يعدونها ذؤابة أهداف الثورة و أقصى أمانيها, و كأن النظام الراسخ المتمرس منذ عقود سيتخلى عن السلطة فجأة الى رئيس ينتخبه الشعب عبر صناديق الاقتراع.
قلت أن تلك الخطوة يعدها المؤمنون بها ذؤابة أهداف الثورة, و هذا يوضح التباين الشديد فى فهم مفهوم ((الثورة)); فالثورة تعنى لديهم محاولة اصلاح الوضع القائم دون المساس بقواعده خوفا عليه من التفكك و الانهيار, بينما تعنى الثورة لدينا-نحن الذين قررنا مقاطعة مسرحية الانتخابات الرئاسية-هدم الوضع القائم, تحطيم قواعده, اقتلاعه من جذوره,و بناء وضع جديد مختلف ظاهريا و جوهريا عن أسلافه.


و يحاول بعض ((الثوريين)) الذين قرروا المشاركة فى تلك المسرحية, يحاولون إختلاق مبررات لمشاركتهم, فيقولون ((سننتخب المرشح الثورى القادر على التصدى للعسكر)).
و تنشب الخلافات بينهم أثناء البحث عن الثورى المزعوم, و يخرج كل منهم بمرشح يدعى أنًه مرشح الثورة و أن أنداده من المرشحين هم عملاء الثورة المضادة, و تتصاعد حدة الصراعات بينهم, متغافلين جميعا فى خضم ما يخوضونه من معامع أن البحث عن مرشح يتبنى مطالب الثورة و يطرح برنامجا جذريا بين أولئك المرشحين الذين ارتضوا المشاركة فى انتخابات يحكمها العسكر, كالبحث عن قطة سوداء-لا وجود لها فى الواقع-داخل غرفة معتمة; فلو كان المرشح ثوريا بحق, لما ارتضى المشاركة فى تلك المهزلة.
و يصل الأمرببعض الانتهازيين الى المزايدة علينا و نعت المقاطعة بأنها جريمة وطنية, و كأن المشاركة  فى ترسيخ قواعد النظام و تثبيت أقدامه عملا وطنيا جليلا, بل ولعل المشاركون فيه يستحقون أوسمة وطنية رفيعة.


الوضع الراهن بما يحيط به من ضبابية يعزى الوصول إليه الى ضعف الخطاب الثورى, هذا الضعف و الخلل يعزى بدوره الى عاملين أساسيين. العامل الأول هو إقتصار الخطاب الثورى على فئة معينة من المثقفين, و العجز عن ايصاله الى الشارع, و هذا العامل يرتبط ارتباطا وثيقا بالعامل الثانى المتمثل فى العجز عن تطوير الخطاب الثورى, فالنظريات الثورية ليست ثوابت نخضع لها حلومنا, بل يجب العمل على تطويرها من جديد و بحثها بحثا موضوعيا, و تلك الرؤية الموضوعية لن تواتينا إلا إذا خلصنا أنفسنا من المسلمات و التحيزيت و الأفكار المسبقة, و جردنا أنفسنا من رواسب التنشئة و عوائق اللاوعى الفردى و الجماعى; لنصل الى ما نريد من رؤية موضوعية بعيدا عن ما هو ذاتى أو شخصى.


أثناء متابعتى للخطاب الثورى و تحليلى له, خالجتنى مسرحية أهل الكهف للمبدع توفيق الحكيم, ففى تلك المسرحية الرائعة يظهر توفيق الحكيم كيف مات أهل الكهف نتيجة لفشلهم فى الـاقلم مع الواقع بعد فترة طويلة من العزلة, هكذا حال بعض الخطاب الثورى, هكذا نجد بعض طارحيه منفصلين عن الواقع بشكل كبير.
فإما أن يعيدوا تطوير الخطاب الثورى بما يحمله من نظريات لجعله متأقلما متعايشا مع الواقع, و إما أن يكون مصير ذلك الخطاب أن يضمحل و يخبو نجمه فى مواجهة الخطاب الإخوانى الآخذ فى تطوير ذاته تطويرا موضوعيا.


الرئيس القادم أيا كان اسمه و أيا كانت توجهاته لن يكون سوى استبدال للواجهة الأمامية العسكرية بواجهة يغلب عليها الطابع المدنى, أما الحديث عن تسليم السلطة فهوحديث لا معنى و لا صحة ولا أساس له; فهل من الممكن أن يسلم العسكر قوتهم الى ذلك المنتخب؟؟هل من الممكن أن يسلم العسكر الجزء الهائل من الاقتصاد الذين يتحكمون به الى ذلك المنتخب؟؟
المشاركون لهم حق المشاركة دون تخوين و المقاطعون لهم حق المقاطهة دون نعتهم بالمجرمين, المشاركون لهم وجهة نظر نعدها خاطئة..و المقطعون لهم وجهة نظر يعدها المشاركون خاطئة. دورنا نحن المقاطعون أن نبرز خلال الأيام القليلة المتبقية الأسباب التى دعتنا الى ايثار المقاطعة.و العمل على كسب قطاع من الشارع الى صفوفنا, و العمل لن يتوقف فى خضم و بعد الانتخابات, فكما أشرت يجب اعمل على تطوير الخطاب الثورى بما يتماشى مع الواقع. و تحليله و نقده, للوصول الى خطاب ثورى قادر على الوصول الى الشارع.



الأحد، 22 أبريل 2012

ذوائب العبث

نواصل العبث اللامتناهى الذى أنتجناه على مر الأسابيع و الشهور الماضية, نتشبث تشبثا عجيبا بذوائب العبث, بل أنَا نصطنع  أشكالا جديدة من العبث, ليضحى موجودا حولنا فى كل مكان, فتارة تجده فى مجلس الشعب الذى بات سيركا واسطة العقد فيه سفاسف الأمور و توافهها, و تارة نجده فى تصريحات أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين يحاولون إيهامنا بأنهم على استعداد للرحيل فورا و لكن الظروف تمنعهم, و تارة نجدها فى تصريحات قادة الأحزاب الإصلاحية و فى جلساتهم مع المجلس العسكرى, و تارة تجدها فى مليونيات جماعة الإخوان المسلمين و إعتصامات أنصار المرشح السلفى المستبعد من خوض مسرحية الانتخابات الرئاسية, و ما بين الحديث عن انتخابات الرئاسة و تأسيسية الدستور يصل العبث الى ذروته.


يتصور البعض أحيانا وجود ثمة صراعات و اضطرابات فى العلاقة الزوجية القائمة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة قائد الثورة المضادة و جماعة الإخوان المسلمين الساعية الى إستيعاب الثورة عن طريق إجهاضها برلمانيا بالاعتماد على قوتها و خبرتها التنظيمية و قاعدتها الجماهيرية الواسعة خاصة فى الريف و الأحياء الفقيرة, و لكن الخفاء يبرح و الأيام تسبر غور العلاقة الزوجية الحميمة بين الطرفين, العلاقة القائمة على المصلحة المشتركة لكليهما, العلاقة التى تتوطد كلما صعد و انجلى النور عن عدوهما المشترك المتمثل فى الثورة المصرية, و لو كانت هناك بعض الهزات الخفيفة فى قواعد العلاقة فسببها الخلافات على نصيب كل منهما فى التركة, و لكن تلك الهزات و الاضطرابات الخفيفة ما تلبث أن تختفى إذ يتوحدا فى مواجهة عدوهما المشترك, كل بتكتيكه و لكن باستراتيجية واحدة.


لا ينحصر المنهج العبثى على العسكر و الإخوان وحدهما و إنما يطال من يدعون بالنشطاء السياسيين و الحقوقيين و من يسمون أنفسهم بالثوريين, إذ نجدهم داعمين لأحد المرشحين الإسلاميين من جماعة الإخوان المسلمين و يحاولن إقناع أنفسهم بأنه مرشح ليبرالى أو أنه مرشح منشق عن الجماعة, فهل لو كان أحد الضباط فى جيش السفاح قد استقال من الجيش, هل يعنى ذلك أنه استقال لرفضه منهج القائد السفاح أم أنه استقال لأن السفاح لم يعطيه سلطات أوسع تمكنه من سفك الدماء, ربما يعد هذا تشبيها مبالغا فيه و لكنه يشرح الواقع العبثى المرير.


يتحدث البعض عن إحتمالية عدم إجراء الإنتخابات الرئاسية أو عن قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالانقلاب على انقلابه على الثورة, و رغم احترامى لكل تلك التحليلات الا اننى أراها تفتقد للدقة, فأرى -رؤية قد تصيب أو تخطئ- أن إجراء الإنتخابات الرئاسية فى موعدها يصب فى مصلحة المجلس العسكرى, فمن جانب سيؤدى هذا الى تهدئة الشارع الى حد بعيد, و من جانب آخر ستوجه جميع الإنتقادات و سيصب الغضب على الرئيس الذى سيكون واجهة تتلقى طعنات الصراع بينما يكمل العسكر حكمهم للبلاد.


ذؤابة العبث تظهر فى تصريحات المرشح البديل للمرشح صاحب مشروع النهضة المزعوم , الذى خرج علينا بالأمس فى مؤتمر صحفى ليعلن بكل سفور عن استمرار العلاقات الدولية و الديبلوماسية و الحفاظ على الاتفاقات الإقتصادية مع الكيان الصهيونى  فى حال فوزه بانتخابات الرئاسة, فبعد عقود من كون جمهورية مصر العربية حليفا للإمبريالية فى الشرق الأوسط, قد تتحول الى مركزا لها فى الشرق الأوسط فى ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين.


المجلس و الجماعة يريدان أن يصل و أن يترسخ لدينا هذا الإعتقاد: إما أن نرضى جميعا و نرضخ للديموقراطية البرلمانية الزائفة (عبودية يختار فيها العبد سيده كل 5 سنوات) الساترة لاستبداد الفاشية العسكرية, و إما أن نجد أنفسنا نسبح فى بحور من الدماء و تحيط بنا الجثث من كل جانب غارقين فى كابوس الفوضى.


((العمل الثورى يتبخر فى الهواء إذا لم يكن منظما, النضال يذهب هبائا إذا لم يكن بتكتيكات واضحة و إستراتيجية محددة)) هكذا يعلمنا التاريخ; لذا فنحن فى أمًس الحاجة فى الوقت الحاضر الى حزب إشتراكى ثورى منغرس فى صفوف العمال و الفلاحين و الموظفين و الطلاب, حزب قادر على قيادة النضال الجماهيرى نحو النصر, حزب قادر على قيادة الجماهير نحو إسقاط الدولة و القضاء على المجتمع الإستبدادى الإستغلالى و بناء المجتمع الإشتراكى الذى ترفرف على راياته شعارات الحرية و العدالة و المساواة.





الثلاثاء، 27 مارس 2012

سلطتان فاشيتان

ها قد أزيل الثرى عن الصورة فأضحى المشهد واضحا للعيان و أضحى أكثر وضوحا و بزوغا لمن كان يراه من قبل, فقد ظهرت بوادر الصراع السلطوى بين الطرفين الأكثر بروزا و وضوحا فى الحياة السياسية المصرية, الطرف الأول متمثل فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة و الجيش النظامى حامى حمى النظام و خط دفاعه الأخير, و الطرف الثانى متمثل فى الأغلبية البرلمانية الانتهازية التى تسعى الى اقصاء الجميع من المشهد لتنفرد بصياغة الدستور, دستور يحقق طموحاتها فى دولة دينية فاشية يحكمونها بالحق الإلهى, دستور يقنن التعذيب و يعطى الحاكم سلطات مطلقة, و اعتبار كل معارض للنظام كافر و فاجر وجب إقامة الحد عليه.


بوادر ذلك الصراع تظهر بعد فترة من التحالف بين كلا الطرفين, تحالف كان ضروريا لكليهما; فبالنسبة للفاشية العسكرية,فهى كانت تريد أن تتحالف مع أى فصيل كبير و مؤثر و منظم و فى نفس الوقت إصلاحى و لا يسعى بأى شكل من الأشكال الى قلب النظام الإجتماعى, كان المجلس يريد التحالف مع فصيل كهذا ليهدئ له الشارع الذى كان ملتهبا حينها, و ليحصر له الثورة فى استبدال مبارك بحاكم رأسمالى أكثر ديموقراطية أو أقل ديكتاتورية, دون أى مساس من قريب أو بعيد بمصالح رجال الأعمال و كبار الضباط, و على الجانب الآخر كان التحالف ضروريا أيضا بالنسبة للفاشية الدينية, فهى وصولية و سلطوية, هدفها الأول و الأخير و الأسمى هو الوصول الى السلطة حتى لو كان ذلك يستدعى التحالف مع الشيطان ذاته.


واقعيا كانت مصالحهما متشابهة, فبعيدا عن الشعارات الدينية الوهمية التى يرفعها الإخوان, تتشابه بل و تتطابق المصالح الاجتماعية لكليهما, فكليهما يقدس مصالح البرجوازية و كليهما يقدس الجيش النظامى, و لا عجب فى ذلك;  فقيادات الإخوان ما هم إلا حفنة من رجال الأعمال فاحشى الثراء و المجلس يريد بالطبع الحفاظ على مصالح كبار الضباط و الطبقة البرجوازية.


بعد كل تلك المصالح المتشابهة التى أوردناها, لماذا ظهرت بوادر الصراع؟؟ ظهرت لأن كلا الطرفين غير مطمئن للطرف الآخر و كلاهما يريد الإنفراد بالسلطة, و الإخوان يتذكرون أحداث الماضى الأليم حين انقلب عليهم جمال عبد الناصر عقب انقلاب الضباط الأحرار فى يوليو 1952.


و إذا ما تفاقمت شدة ذلك الصراع المحتمل, فلا شك أن المنتصر سيكون المجلس العسكرى, الذى سيلعب على وتر (حفظ الأمن القومى و حماية الأقليات و حفظ مدنية الدولة..الخ..) إلا إذا كان لدى الإخوان مفاجئات أخرى لا نعلمها.


تتصاعد الآن بعض الأصوات من مدعى الثورية مطالبين بالوقوف فى صف الإخوان لإسقاط المجلس العسكرى و تواجهها أصوات بعض المتطرفين من التيار الليبرالى و بعض الاشتراكيين الستالينيين تطالب بدعم المجلس العسكرى ضد الإخوان, و كلا الطرحين كارثيين;  فدعم الإخوان ضد العسكر سيؤدى حال انتصارهم الى انفرادهم بالسلطة و اقامة الحكم المطلق, و كذا دعم العسكر ضد الإخوان, دعم أى من الفاشيتين يعد حفرا لقبر الثورة.


علينا أن نعمل على إسقاطهما معا, علينا أن نعمل على اسقاط المجلس العسكرى الفاشى و هدم ذلك الصرح الذى بناه الإخوان منذ 80 عاما و اسقاط الفاشيتين الدينية و العسكرية أحد أهم الخطوات فى طريق اسققاط الدولة.



الأحد، 26 فبراير 2012

لا انتخابات تحت حكم العسكر

أيام قليلة و يتم فتح باب الترشح للإنتخابات الرئاسية التى تعد مرحلة أقوى و أعمق من مراحل اجهاض الثورة, تلك المراحل التى تمت خلال فترة زمانية أطلقوا عليها اسم ((المرحلة الانتقالية)) و الهدف الأساسى لتلك المرحلة كان اضفاء نوع من القدسية على ديكتاتورية السلطة المصرية بأن يتم إقتسام السلطة بين المجلس العسكرى و التيارات التى تسمى نفسها بالاسلامية.

و لكننا أيضا مسئولون عما وصلنا اليه بعبثيتنا و عدم التحليل الواقعى للمشهد و بالتالى عدم طرح حلول جذرية للمشكلات, فاستخدام نفس العقلية التى أنتجت المشكلة فى حلها لا يؤدى إلا الى مزيد من العبث و لا يزيد المشهد إلا ضبابية..نعم نحن نعبث, نعلن عن مسيرات و مظاهرات حاشدة فتخرج الجماهير للمشاركة بها ثم تعود من حيث اتت اذ تجدها خاوية المعنى, نعم نحن نعبث فحكما عسكريا متمرسا منذ عقود لن يسقطه مظاهرات ولا اضرابات و لا حتى عصيان مدنى. و اولئك النشطاء أيضا يعبثون اذ تجدهم على الشاشات يدعون الجماهير الى النزول الى الشوارع دون أن يطرحوا عليهم برنامج واضح, ثم تجدهم يدلون بأصواتهم فى انتخابات هزلية من صنع العسكر.
و رفاق الأمس الذين حولوا أنفسهم بحذلقتهم الى أعداء اليوم, اولئك الرفاق الذين كانوا معنا فى الانتفاضة الأولى للثورة و سعوا مع الجماهير العازمة الى تقويد النظام نجدهم فجأة قد تحالفوا مع هذا النظام و دعموه لأنهم رأوا أن الثورة يجب أن تتوقف عند هذا الحد و ألا تتحول الى ثورة اجتماعية شاملة تعصف بالنظام الاجتماعى القائم, لذا فكان موقفهم أن الثورة يجب أن تتوقف فورا و لا تتخطى حدود ما وصلت اليه فقد نالوا مطامعهم لذا فهم لا يمانعون أن تسقط الثورة.

فيما تواصل السلطة العسكرية عبثها الذى أنتجته خلال الفترة المشار اليها أعلاه و تتوّجه بإعلانها عن وضع دستور للبلاد خلال 6 أسابيع و هو ما يؤكد شكوكى حول هذا الأمر بأن الدستور الذى يريده العسكر للحفاظ على مواقعهم و على مصالح البرجوازية المصرية موضوع و جاهز و كل ما سيحدث فى الفترة المقبلة مجرد اقراره.
 و الانتخابات الرئاسية فى ظل هذا الوضع الملتبس لن تسفر الا عن رئيس يكون واجهة مدنية لاستبداد الفاشية العسكرية التى بدورها تحمى مصالح البرجوازية المصرية, و لنا عبرة فى جارتنا اليمن التى تمت فيها مؤخرة انتخابات رئاسية تحت حكم صالح و تم تسليم السلطة الى نائبهو كأننا أمام مشهد مكرر لما حدث ابان الثورة اليونانية..أفلا تعقلون.

إما أن تعلن القوى الثورية الآن و فورا عن مقاطعة مسرحية الانتخابات الرئاسية و أن تناضل من أجل تشكيل  جبهة ثورية تناضل بصورة فاعلة فى الأحياء و المصانع و القرى و النقابات و الجامعات و المدارس من أجل استمرار الثورة فى الشارع, و أن تلتحم تلك الجبهة بالطبقة العاملة و تعمل على تطوير احتجاجاتها و اعطائها بعد سياسى لكى تتمكن من الاطاحة بتحالف رأس المال بين الفاشية العسكرية و تجار الدين. و اما أن تنتهى الثورة عقب الانتخابات و تتحول الى معارضة سياسية.

((كل المفروض مرفوض...اثبت للعالم انك موجود))

الأربعاء، 22 فبراير 2012

فى مسرح العبث


أقصد ذلك المسرح الكبير الذى يتسابق فيه أكثر من 500 عبثى, بعضهم يقوم بأدوار البطولة و البعض الآخر يؤدى أدوارا ثانويا والبعض يحاول تحسين هذه الصورة العبثية و لكن طبعا دون الخروج عن الاطار العام للعبث.

أحدثكم عن هذا الكيان الذى يطلقون عليه اسم ((برلمان الثورة)) و هو فى الواقع لا يمت للثورة بصلة, فالقوى المشكلة لهذا البرلمان-على الرغم من أنها كانت من القوى المعارضة للمخلوع-معادية للثورة و الثوار, تسعى جاهدة الى تحجيم و استيعاب الثورة, و هذا ليس غريبا, فأصحاب الأكثرية فى هذا البرلمان هم ((الاخوان المسلمون)) و الذين اذا ما حللنا طبيعتهم الطبقية نجد أن عمودهم الفقرى ((الطبقة الوسطى الحديثة)) وحزبهم تقوده مجموعة من رجال الأعمال شديدو الثراء, و مرشحهم لرئاسة الحكومة المهندس خيرت الشاطر هو حوت بيزنس يمتلك المليارات و يعشق الخصخصة و لا يحب فكرة إعادة توزيع الثروة.

يتصور الكثيرون أن هذا المسرح العبثى يمكنه تقديم أى إصلاحات و هذه التصورات ما هى الا أوهام فهذه القوى على الرغم من أنها إصلاحية الا أنها ستفشل حتى فى تقديم اصلاحات و لو مؤقتة.فالقوانين لا تسن و لا تقر فى المسارح العبثية و إنما تسن و تقر فى الغرف المغلقة و وظيفة تلك المسارح العبثية هى ايهام العامة و الضحك عليهم.

الاعلام كان له دور كبير فى خروج البرلمان بهذا الشكل العبثى و هو يحاول الآن تأليههو جعل الاعتراض عليه جريمة كبرى و هذا ليس غريبا على هذا الاعلام فهو الذى أله مبارك و أله من بعده المجلس الأعلى للقوات المسلحة و أله مجموعة من الأحجار المتراصة بشكل منظم مشكلة مبانى يطلقون عليها اسم مؤسسات الدولة بل انه أله- ومن الآن-الرئيس القادم.

علينا أن نتصدى للمبنى القذر المسمى ماسبيرو و للمسرح العبثى بالعمل بحملات التوعية الجماهيرية فالشوارع و الأحياء, فتلك الحملات هى التى ترفع من الوعى السياسى و الاجتماعى لدى المواطنين و ليس التلفزيون القذر المشوه, بالطبع تواجهنا و ستظل تواجهنا تلك الظاهرة التى يطلقون عليها اسم ( المواطنون الشرفاء) اولئك الجهلاء الذين لا يعرفون غير كلمة واحدة (حرام عليكم خربتم البلد) اولئك الذين يعدون صمام الأمان لأى نظام فاشى و لكننا علينا ألا نعيرهم اهتماما.

أسيبكم بقى عشان أروح أكمل مسرحية العبث