(1)
كانت عقارب الساعة المعلقة على الحائط العارى المقابل لباب
غرفته بجوار صورة كبيرة للمناضل تشى جيفارا تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل عندما
كان هو متوضعا على الأريكة البالية التى وعدته أمه بتنجيدها مرارا دون أن تفى
بوعدها .. – و على الرغم من توفر المال إلا أنه أخذ يتناسى كونها بالية - و بيده رواية
متهالكة الغلاف لنجيب محفوظ كان قد استعارها من زميله بمكتب المقاولات الذى وفق للعمل
به فور تخرجه هذا العام، عندما سمع رنين الهاتف يخترق حاجز السكون الذى أضواه مع
الليل الساج .. فهرول إلى الهاتف قبل أن يوقظ ضجيجه النمطى المتصل النيام.
- ألو .. من؟
جائه الصوت على الفور هادئا عذبا ملائكيا كأنما يتنزل من
على.
- هشام؟
- أجل.
- آسفة جدا لإزعاجك فى هذا الوقت المتأخر .. أنا لقاء زميلتك
بالمكتب.
- أوه ! آسف يا لقاء إن صوتك مختلف تماما بالهاتف لذا لم
أعرفه. و لكن من أين لكى برقم المنزل؟
- علمت من زملائنا أنك مريض و أخذت الرقم لأطمئن عليك.
- أنا جد ممتن لإهتمامك .. ألم ألم بى فألزمنى طريحا للفراش
.. و يبدو أن الضيف ثقيل يؤثر الإطالة.
ضحكت لقاء قائلة : ستتعافى عاجلا بإذن الله .. و تعود إلى
كرسيك الخالى بالمكتب. أكرر أسفى لإتصالى المتأخر. إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
(2)
فى اليوم التالى عندما دقت عقارب الساعة مشيرة إلى مضى ساعة
على إنتصاف الليل .. رن جرس الهاتف مجددا .. و لكن هشام فى هذه المرة كان جالسا إلى
جواره .. فقد كان يتوقع مثل هذا الإتصال .. أو ربما كان يهفو إليه فجعله هذا ينتظر
بجوار الهاتف فى شغف!
جائه صوتها العذب كأنما هو مقطتف من سيمفونية أبدعها سيد
أساتذة الموسيقى
- ألو .. هشام؟
- كيف حالك يا لقاء؟
- بخير. و أنت كيف أصبحت اليوم؟
- أفضل بكثير من أمس .. ربما آتى للعمل غدا.
- رائع! و لكن لا تضغط على نفسك .. إن كنت تشعر ولو بقدر
ضئيل من الألم فلا تحمل نفسك على المجئ فيزداد الألم.
- لا تقلقى .. لن أخرج من المنزل إلا عندما يتم شفائى بالكامل.
و أحس أن الحديث بهذا يؤول إلى نهايته .. فأراد أن يقول أى
شئ يمد به مدة الحديث.
و لكنه لم يدر ما يقول ..
فجاءه صوتها
- حسنا دمت بود.
- و أنتى أيضا.
(3)
فى ذلك اليوم استقيظ مبكرا ، نشيطا متفائلا على غير العادة
، كأنما أشرقت روحه مع إشراقة الشمس. إرتدى حلة أنيقة و تعطر من تلك الزجاجة الثمينة
المحفوظة بالدولاب الخشبى العتيق. و رشف رشفتين من كوب الشاى بالحليب ثم هبط مسرعا لكى لا يتأخر .. إنه فى هذا اليوم دونا عن
سائر الأيام ينبغى ألا يتأخر .. إنه اليوم سيلقاها بعد مضى أسابيع مذ لزم الفراش
يسمع صوتها كل يوم .. كان يشتهيها إشتهاء عاجزا .. إلا أنه عفيفا.
عندما خرج من بوابة العمارة الحديدية وجد أرض الشارع مغطاه بالوحل .. فخشى أن
تتسخ حلته الأنيقة .. و حارب حربا ضروس ليتفادى برك الوحل السابحة على سطح الأسفلت
.. ثم خرج إلى الشارع الرئيسي و طال إنتظاره للميكروباص الذى كان يستقله يوميا إلى
المكتب قبل أن يلزمه ألمه الفراش. كان يريد أن يصل مبكرا تحت أى ظرف فقرر أن يركب
سيارة أجرة (تاكسى) و يتركها على الله .. على الرغم من البون الشاسع فى الثمن بين
الوسيلتين .. إلا أن اليوم يوما مختلفا تماما .. لا ضير من التضحية ببضع جنيهات.
***
ما أن دلف إلى المكتب حتى إندفع الزملاء نحوه كأنما انفجرت ماسورة و تدفقوا
منها .. حاوطوه مهنئين حامدين الله على
سلامته .. ثم رأاها .. كانت جالسة
على كرسيها فى المكتب المجاور لمكتبه.. بعينيها الدائرتين و أنفها المنمنم و شعرها
الأسود الداكن المنسدل على كتفيها .. تقدم منها
-
هشام !! حمدا لله على سلامتك , كيف حالك؟
-
بخير يا لقاء .. كيف حالك؟
-
الحمد لله .. علمت من الزملاء أنك قادم منذ
ربع ساعة فقط .. لكنى لم أصدق.
فضحك قائلا : ها أنا ذا أمامك
-
سعيدة لرؤيتك ..
-
و أنا أيضا
لم يدرى ماذا يقول .. كان أريد أن يطيل الحديث
و لكنه لم يجد ما يقوله كالعادة .. فاتخذ موضعه على الكرسى خلف المكتب المجاور.
(4)
كان منهمكا فى بعض الملفات ..
اجتثه صوت رنين الهاتف من تركيزه ..
- ألو .. كيف حالك يا لقاء؟
- كيف حالك يا هشام؟
- لماذا لم تأتى اليوم إلى المكتب؟
- أى مكتب؟
- المكتب يا لقاء ! المكتب الذى نعمل به
- واضح أنك مرهق قليلا.
لا تنس أن تتبضع لنا قبل مجيئك .. فحماتى قد تأتى اليوم
لتمكث معنا بضع أيام.
-
أمى؟ لم تقل لى؟
-
بل قالت لك
بالأمس.
أوما برأسه متذكرا و
قال : أجل أجل .. لقد نسيت .. حسنا .. سأجئ بالأولاد من المدرسة ثم أمر عليها.
ثم وضع السماعة و أرخى
رأسه على الكرسى الوثير.