السبت، 19 يناير 2013

حلقة علم



فرغ الشيخ عبد ربه من أداء الصلاة المفروضة ثم أتبعها بركعتى السنة. من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. الصلاة لقاء و فناء. ارتأى ركنا من المسجد جلس ينتظر فيه ريثما يكتمل رواد مجلسه العلمى الأسبوعى. الشيخ عبد ربه يعده طلاب العلم فى المدينة أعلم أهلها, و يقصدونه من كل حدب و صوب. و العلماء يعدونه حجة عصره, يقول مولانا دائما أن العالم لا يكون عالما بحق إلا إذا توافرت فيه ثلاث شروط, ألا يحتقر من دونه, و ألا يحسد من فوقه, و أن يكون عمله خالصا لوجه المولى عز و جل.
كان مولانا قد بلغ عامه السبعين منذ شهرين, فشا الشيب فى رأسه و لحيته فأعطاه مظهرا وقورا, و ابتسامته التى لا تفارق وجهه كأنما منبع أفراح الكون كله يكمن فى قلبه كانت تجذب كل من يراه أو يحادثه, يقولون أن فيه شيئا لله. من تواضع لله رفعه.
أخبر الشيخ طلابه فى الدرس الماضى بأنه يؤثر أن يكون موضوع الدرس التالى مفاجئا, آثار هذا فضولهم فطفقوا يضربون الظنون حول موضوع الدرس القادم. فمنهم قائل أن الدرس سيكون فقهيا, و منهم قائل أن الشيخ سيجرى لهم امتحانا, و منهم قائل أن الشيخ سيبدأ فى دروس السيرة.
كانت الساعة زهاء الثامنة و لم يكتمل الحضور بعد. اللهم ارفع مقتك و غضبك عنا, دولة الظلم ساعة و دولة الحق إلى قيام الساعة. الله لن يترك عباده المؤمنين .. يد الله فوق أيديهم. ولا غالب إلا الله. اللهم اغفر لقومى فهم لا يعلمون.
اجتث الشيخ من تأملاته أحد طلابه قائلا "ألن يبدأ الدرس يا مولانا؟"
فسأله عن الحضور فقال أنهم اكتملوا, فقام الشيخ من موضعه و دلف إلى طلابه بخطوات وئيدة و حياهم بالتحية الخالدة و سألهم عن أحوالهم, فردوا التحية حامدين شاكرين.
أطرق الشيخ لبرهة تعلقت فيها الأنظار به انتظارا لمعرفة موضوع الدرس المنتظر. دخل أحد الطلاب المتأخرين, كان أصغر رواد الشيخ عبد ربه عمرا. الشيخ يحبه و سائر الرواد كذلك. حيا سعد الجلوس ثم اتخذ موضعه و أخرج كراسه. كل يوم لا أزداد فيه علما يقربنى إلى الله فلا بورك لى فى شمس ذلك اليوم.
بدأ الشيخ كلامه بصوته الذى ينبض رقة و عذوبة و طمأنينة منبثقة من روحه المشرقة التى تحلق فى السماء : "آثرت أن يكون موضوع الدرس مفاجئا, لكى تكون إجاباتكم عفوية ونابعة من فطرتكم دونما ترتيب. تعلقت الأنظار فى لهفة بالشيخ الذى أردف قائلا : سأسأل سؤالا و سيجيبنى كلا منكم برأيه . . ما هى المكاسب التى حققتها الثورة؟ ماذا جنينا من الثورة؟!
نظر الحضور إلى الشيخ فى ذهول و قد شلت الدهشة ألسنتهم! فتابع الشيخ : فلنبدأ من اليمين . . ما هى المكاسب التى حققتها الثورة يا جعفر؟
أطرق جعفر ذو اللحية المنمقة هنيهة ثم أجاب فى ثقة بأسلوبه الدرامى الكاريزماتيكى المعتاد : " أهم مكاسب الثورة يا مولانا زوال الإستبداد .. و فك القيود التى كانت تقوض رقاب العباد. و إسترداد حريتنا المسلوبة, و أموالنا المنهوبة." ابتسم الشيخ عبد ربه ثم انتقل إلى الطالب الذى يليه. "و أنت يا عبد الرحيم؟"
وضع رحيم طويل القامة وجهه ذي القسمات الدقيقة بين كفيه العريضين لبرهة ثم قال " أهم ما جنينا من الثورة - يا مولانا - أن الجماهير أضحت تقرر مصيرها بنفسها, لا حسب ما يريده الطغاه, و أننا قد تحررنا من الخضوع و الذل لمن لا يعرفون الله عز و جل ولا يخشونه." أثنى الشيخ على عبد الرحيم ثم انتقل إلى طالب ثالث كث اللحية عريض الوجه " و أنت يا عيسى, ما رأيك فيما جنينا؟"
أطرق عيسى لحظات يفكر خيم فيها على المكان صمت جميل. ثم أجاب بصوته الأجش : " خير ما حققت الثورة - يا مولانا - هو تحرير الأمة من العصابة الموالية لأعدائنا من الصهاينة و الأمريكان. و عتق رقابنا من الخضوع لأولئك الفجرة. و كذلك أنه أضحى لدينا الحق فى التعبير عن ما نعتقد بحرية مطلقة, لن تعتقلنا أجهزة الدولة مجددا." و هنا طغى البكاء على عيسى و منعه من الإستمرار فى كلامه. "رحم الله من ضحوا بأرواحهم" "رحم الله شهدائنا الأبرار." و إستخرط الجميع فى البكاء. ((ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا, بل أحياء عند ربهم يرزقون.))
إلتفت الشيخ بعد أن سكنت نوبة البكاء التى انتابت الجميع إلى الطالب التالى فسأله نفس السؤال. فأجاب حمزة : "إنى لأرى أن أعظم ما حققته الثورة أنها أحيت الشعب من سباته العميق."
ثم جاء دور ابن عبد الله الذى كانت إجابته : " إنى لأوقن - يا مولانا - أن أعظم ما حققته الثورة هو صياغة دستور جديد يكفل للشعب حقوقه و حرياته, و إعادة هيكلة نظام الأجور فى الدولة, و البدء فى وضع الخطط العملية لإعادة توزيع الثروة تحقيقا للعدالة الإجتماعية التى كانت حلم الملايين الذين ثاروا على الأوضاع البائدة."
توالت الأدوار و الكلمات و الآراء تترى, كل يدلى برأيه الخاص, يتسابقون فى سرد مكاسب الثورة الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية. و الشيخ يصغى إلى الجميع فى إهتمام بالغ و يثنى على كل من يفرغ من الإدلاء برأيه بابتسامة أو ايماءة من رأسه.
إلى أن آن آن الطالب الأخير فى المجلس. "سعد .. أخبرنا برأيك."
قام سعد طويل القامة نحيل الجسد ضعيف البنية من مجلسه و استوى واقفا و بدأ كلامه قائلا " أعجبتنى جميع الآراء يا مولانا, إلا أنى أرى أن ثمة حلقة مفقودة, ثمةشئ لم يذكره أحد مطلقا. و هو فى الحقيقة أهم ما حققته الثورة على الإطلاق!!"
تعلقت الأنظار بالفتى فتلعثم و لم يستطع أن يكمل كلامه. فشجعه الشيخ على مواصلة الحديث.
تجشم سعد و استجمع قوته و واصل الحديث " أهم ما أحدثته الثورة أيها الإخوة هو تغيير أفكارنا, هو هدم الأوثان الفكرية و الطواغيت التى كانت تهيمن على عقولنا, هو البدء فى إخراج جيل متحرر ثقافيا من قيود التبعية و متخلص من رواسب التنشئة و عوائق الجهل." صمت سعد هنيهة ثم واصل " هذا أيها الإخوة إذا نجحنا فى العمل عليه فستؤتى كل النتائج الأخرى أكلها. و إلا فلا! فما فائدة التغيير الإقتصادى أو السياسى إذا ما بقت الأفكار على فسادها؟ لا شئ!! . . إن النهضة العقلية - أيها الإخوة - تسبق أى نشاط سياسى أو إقتصادى حقيقى!"
عاد سعد إلى موضعه و جلس و لم يستطع أن يميز إن كان الشيخ يبتسم إبتسامته المعهودة أم لا .. إذ كان الشيخ مطرقا.

هناك تعليقان (2):

  1. Brilliant ya Omar, I hope ppl get the message out of that. But actually not hing has been achieved till now !

    ردحذف
  2. انا مشفتش القصة دي لما اتبعتتلي
    حقيقي رائعة .. الشيخ عبد ربه , طريقة السرد و الكلام فكرتني بنجيب محفوظ فعلا .. بس اعتقد انه من الأفضل تخلي اسم الشخصية الرئيسية من وحي خيالك :)

    ردحذف