ثمة نموذج معرفى يعرف الثورة كمجموعة من الإجرائات و التطبيقات و الممارسات يُسعى من خلالها إلى تغيير المجتمع تغييرا جذريا شاملا و نقله من حالة تطورية معينة إلى حالة تطورية أكثر تقدما, أو إلى الحالة التطورية المثلى إجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا و ثقافيا. و الوصول بالمجتمع إلى المرحلة المثالية الطوباوية. و يمكن تعريف الثورة فى هذا الإطار على أنها فعل عنيف داخل التاريخ غايته النهائية الوصول إلى نهاية التاريخ عبر تحقيق النظام الإجتماعى الأمثل. تعد المنظومات الفكرية المتبنية لهذا النموذج ذلك المفهوم من الثورة كالمنهج أو السبيل الوحيد إلى الخروج من حالة الركود الإجتماعى , إلا أن ذلك يغفل أن النشاط الإنسانى ليس مكونا فقط من العناصر التى يمكن للثورة بمفهومها هذا أن تعمل على تغييرها, بل إنه يتكون من عناصر أكثر تداخلا و أعمق تركيبا تتطلب لتغييرها إدراكنا للثورة بمفهوم آخر . .
إن الثورة ليست مجرد ذلك الفعل العنيف داخل التاريخ ; إنها - بالأساس - فعلا عنيفا لكنه فعلا جوانيا , أى أنه يحدث بداخل الإنسان , فعلا يحطم فيه الإنسان كل الأوثان و الأصنام التى تهيمن عليه محاولا إدراك تلك التى تحكمه بصورة لا عقلانية تماما ليسيطر عليها و يحطمها , فعلا تغسق فيه الأوثان الفكرية فتترك الفرصة سانحة للإنسان ليدرك بفطرته المجبولة على ذلك السمت القويم الذى عليه أن يسلكه .. الثورة بالأساس هى تغيير فى عالم الأفكار و ليس فقط تغييرا لنمط السلطة أو لتوجهها , فنهر الفساد الذى يصب فى المجتمع إنما منبعه عقول الناس و تصوراتها قبل أن يكون نمط السلطة القائمة و علاقاتها.
لا محيص من الإقرار بأن للسلطة دور ملحوظ فى إفساد التصورات و تغييب الوعى أو خلق (وعيا متخيلا) مناسبا لها يوسع شبكة علاقاتها لتسيطر على البنية الإجتماعية برمتها .. عن طريق أدواتها المتمثلة فى الإعلام القادر على خلق شكل من الواقع مخالفا للواقع و لكنه متوافقا مع ما تريده السلطة للناس أن تعرفه. كما أن سلاحى التكرير و الإلحاح الذان تستخدمهما السلطة عن طريق الإعلام و التعليم شديدا الفعالية و التأثير على عقول الناس, فيمكن إقناع الناس بوجود أشياء لا وجود لها على الإطلاق . . و يمكن خلق أعداء وهميين للسيطرة على الناس بتخويفهم من أولئك الأعداء الذين لا وجود لهم فى الحقيقة. و بهذا يستبطن الناس نمط السلطة فى نفوسهم فيهيمن على البنية الإجتماعية هيمنة كلية.
إذا فالثورة يجب أن تكون هدما لتلك البنية الفاسدة و إحلالا لبنية أخرى و ليست مجرد تغييرات ظاهرية مثل استبدال الحكام بآخرين.
إن الثورة بمفهومها الأول لا يمكن لها أن تسقط نظاما اجتماعيا و تحل آخر مكانه, فالنُّظم الإجتماعية لا تسقط مثلما تسقط الحكومات و الرؤساء و الدساتير. إن النظم الإجتماعية لا تأفل بين عشية و ضحاها, بل قد يستوجب ذلك فعلا طويلا و حراكا دائما تطرأ فيه التعديلات على البنى الفكرية المشكلة للجسد الإجتماعى حتى يتغير. أما الإعتقاد بأن الثورة - بمفهومها الأول - قادرة وحدها على إحلال نظام إجتماعى بآخر هو إعتقاد جد خاطئ, حتى الثورة البلشفية فى روسيا 1917 لم تسقط النظام الإجتماعى . . فلا الرأسمالية أسقطت بثورة فى 1917 ولا الإشتراكية كما تصوراها كارل ماركس و فريدريك إنجلز حلت محلها . . و إنما يمكن القول أن ثمة تعديلا طرأ على النظام الإجتماعى جعله مختلفا إلى حد ما و لكنه لم يكن المنشود . . و لم يكن تغييرا جذريا فى البنية الإجتماعية بالمعنى المفهوم للكلمة.
إن الثورة - بتعريفها الثانى - هى القادرة على إبدال النظام الإجتماعى نظاما آخر عن طريق ما تحدثه من إعادة تشكيل للتصورات و الأفكار. فالثورة بإعتبارها تغييرا فى عالم الأفكار و ليس فقط تغييرا لنمط السلطة أو لتوجهها هى التى تغير بنية النظام الإجتماعية لتحل محلها آخرى.
يقول أستاذنا (على عزت بيجوفيتش) أن المجتمع العاجز عن التدين هو بالتالى مجتمع عاجز عن الثورة. يمكننا ربط كون المجتمع متدينا بكونه خلوقا . . إذا فثمة علاقة طردية بين الأخلاق و الثورة . . كمثال بسيط على ذلك يمكننا القول أن الإنسان الخلوق لا يمكنه السماح برؤية الظلم و الفساد أمام عينيه و لا يحرك ساكنا , لأن ذلك مخالف لفطرته , بينما قد يرضى بذلك شخصا لا يقيم للعامل الأخلاقى وزنا. فالمجتمع الذى يُغيًب فيه العامل الأخلاقى أو يكون النموذج الأخلاقى المهيمن فيه هو نموذج (المنفعة) لا يمكنه التمرد على الفساد و دفع الظلم.
قد يقول أحدهم : "أويعنى هذا أن الشخص غير الأخلاقى لا يثور . . ماذا لو خرج أحدهم من الحانة ليشارك فى الثورة؟"
فى اللحظة التى يقرر فيها ذلك الشخص أن يجتث نفسه من حياة المجون ليلقى بنفسه فى صفوف الثورة فإنه يكون بالتأكيد قد أيقظ ضميره قبيلها . . إذا أن الثورة - فى ذاتها - عمل أخلاقى, و لكن هذا الشخص قد تضمر أخلاقه مجددا فيعود إلى ما كان عليه. فالإنسان لا يمكنه أن يكون مخلصا لثورة ما حتى النهاية إلا إذا كان ثوريا مخلصا قبلها . . و المعنِيُ بأن يكون ثوريا قبلها هو الثورة بمفهومها الثانى.
تترجم عملية التثوير الداخلى تلك نفسها إلى واقع إجرائى بعد أن تكون قد تمت بالكامل داخل الإنسان, و أعادت صياغة رؤيته لذاته و للكون محررة إياها من رواسب التنشئة التى تنمى التبعية و الخضوع و من عوائق (الوعى الكاذب) و سدود العالم المادى. أى أن الثورة تترجم برانياً بعد أن يكتمل نمو جنينها جوانياً.
إلا أن كلامنا لا يعنى أن المفهوم الأول للثورة هو فعل خاطئ أو مرفوض, و لا ينفى أهمية الثورة بهذا المفهوم فى دفع الظلم و الجور و إسقاط الحكومات و الدساتير الفاسدة. إلا أنه ينفى قدرتها المزعومة على تغيير الجسد الإجتماعى برمته, و ينفى قدرتها على تغيير الواقع تغييرا كليا لأن الواقع ليس فقط هو منظومة السلطة و شبكات علاقاتها. و إنما الثورة القادرة على إحداث هذا التغيير الكلى الشامل هى الثورة كتغيير فى عالم الأفكار و ليس فقط تغييرا لنمط السلطة أو لتوجهها. فكل ثورة بالمفهوم الأول وحده لا يعول عليها فى ذلك التغيير الحقيقى.