الهوية الثقافية
تتكون الهويات الثقافية للمجتمعات البشرية من عدة عناصر رئيسة تتمثل فى اللغة و الدين و الأعراف و القيم الأخلاقية و التاريخ, و تتباين درجة إنتماء تجمع بشرى معين الى إحدى الثقافات بناءا على توافر (وحدة) كل عنصر من تلك العناصر المذكورة.
و تعد الهوية الثقافية أوسع و أكبر قاعدة للتعريف بالذات, فساكن مدينة القاهرة مثلا يمكن أن يعرف نفسه - من ناحية الإنتماء الثقافى - كمصرى و عربى و مسلم و إفريقى, و ساكن مدينة روما يمكن أن يعرف نفسه كرومانى و إيطالى و كاثوليكى و غربى و أوروبى, و يمكن لآخرين أن يعرفوا أنفسهم على مستويات ثقافية أوسع. و لكن الهوية الثقافية لا ترتبط حتميا بالبعد الإقليمى ; فالثقافة الغربية مثلا تظهر فى أمريكا الشمالية مثلما تظهر فى أوروبا, و تشق طريقها فى غيرها من البلدان التى ما زالت تحتفظ بهويات ثقافية مستقلة.
الغزو الثقافى صنو للغزو العسكرى
قديما كانت البلدان الإستعمارية الكبرى تقوم بعملية الغزو العسكرى للبلدان الأقل تحضرا بغرض إستنزاف مواردها و إخضاعها لتبعية الدول الأكثر تحضرا, و كان سكان تلك البلاد الأصليون يدخلون فى قائمة تلك الموارد المستنزفة, لكونهم - من منظور المستعمر المتحضر - أجناس دنيا من الهمج و البرابرة و الرعاع, و لذا فكان من الطبيعى أن يكونوا أدواتا تستخدم لخدمة الغربى الأبيض المتحضر.
و بمرور الأزمنة لم تتغير غاية الدول الإستعمارية الكبرى فى إستنزاف موارد العالم و إخضاع الشعوب لتبعيتها, و لكن الوسيلة تطورت - و إن لم ينتهى إستخدام الوسيلة الأولى فى كثير من الأحيان - فبدلا من إحتلال الأرض وجد إحتلال العقل, و بدلا من إحتلال الأوطان وجد إحتلال الوجدان و إحتلال الإنسان.
الغزو العسكرى عملية إحتلال و إستعمار للأرض بهدف إستنزاف مواردها, عملية تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة و تهتك الأحجبة و تراق الدماء و يتم إجبار المستعمر (بفتح الميم) على قبول رغبات المستعمر (بكسرها) بقوة السلاح الغاشمة, أما الغزو الثقافى فهو عملية إحتلال و إستعمار للعقل البشرى, و طمس لهوية المجتمع المستعمر دون الحاجة الى قوة السلاح.
و فى أحيان يرافق الغزاة العسكريين طلائع غزو ثقافى, و فى أحيان تأتى طلائع الغزو الثقافى وحدها تستعمر العقول و تدمر و ترسم الخطط لنقل المستعمر (بفتح الميم) عن مساره العقلى مثلما ينقل القطار من خط لآخر.
روافد الغزو الثقافى
الأفكار الغاربة التى يبثها الغزو الثقافى تجد تربتها الخصبة الصالحة لنموها و إنتشارها فى المجتمعات المتصدعة ثقافيا و أخلاقيا الخاوية فكريا, بعض تلك المجتمعات قد لا يكون من السهل إستعمارها عسكريا, و لكنها لديها قابلية للإستعمار على المستوى الثقافى و الفكرى. و إذا وجدت تلك الأفكار الغاربة مقاومة أو عدم قبول لدى المستعمر (بفتح الميم) ما تلبث أن تتلفح بعباءات ليست لها, فنرى على سبيل المثال إسلاما ليبراليا و آخر إشتراكيا و ثالث يمينيا و رابع تقدميا, و لربما وجدنا إسلاما علمانيا أو إسلاما إلحاديا فى المستقبل القريب.
تسلك طلائع الغزو الثقافى سموتا متنوعة و تشق طرقا عديدة لتحقق أهدافها, منها أن تكون النخبة المتربعة على رأس السلطة مؤيدة و متحمسة و فاعلة و متحركة بحزم فى إتجاه عملية طمس الهوية الثقافية للأمة, و منها أن تورد الأفكار الغاربة عن طريق الأفلام و المسلسلات التلفزيونية فيتوهم الناس أن تلك أمور طبيعية و تلك سنن الحياة و نواميسها. و منها أن تشرع الأقلام و العقول التغريبية فى بث أفكارها فى الصحف و المجلات. و منها أن يفرض المستعمر سطوته على الجهاز الإعلامى بالكلية, و هذا هو أهم رافد من روافد الغزو الثقافى و الفكرى; فالجهاز الإعلامى بشقيه التلفزيونى و الإذاعى له التأثير الأعظم على تشكيل وعى المواطن. فالمواطنون و خاصة ذوى الوعى الضحل يكونون أمام وسائل الإعلام مجرد متلقين سلبيين, فعندما تسيطر الحكومات و النخب على الأجهزة الإعلامية يسهل أن تغير قيم و إعتقادات المواطنين السلبيين عبر التكرار و الإلحاح الدائم بأن كذا و كيت هو الصحيح و هذا و ذلك علينا التخلى عنه.
و بهذا فإن ما يفعله السلاح بقوة غاشمة, تفعله الأجهزة الإعلامية, ولكن الفارق أن فى الحالة الثانية يكون المواطن راض و متقبل بل و مقتنع يقينا بأن هذا الأمر (الذى كان يرفضه من قبل) أمر طبيعى و واجب و لا بد منه.
كما يعد الكتاب المدرسى رافد فى غاية الأهمية من روافد الغزو الثقافى و طمس الهوية و إلغاء الشخصية, فالطالب ينشأ منذ الصغر على أن كذا و كذا و كذا هى الأمور العلمية و الصحيحة, و أن عليه فعلها لكى يصل الى درجة التقدم الموجودة فى الغرب المتحضر.
و يتم تزييف الحقائق التاريخية لتتلائم مع الفكرة المطلوب (تشريبها) للطالب الناشئ.
ففى الدول الشيوعية كان الطالب يتشرب الأيدولوجية من الصغر لينشأ شيوعيا دون تفكير, هناك قول مأثور عن فلاديمير لينين يوضح هذا الأمر و هو "أعطنا الطفل لمدة 8 سنوات و سيصبح بلشفيا للأبد". و فى الدول الرأسمالية يتشرب الطالب ما يتوافق و التوجه الإقتصادى للدولة.
و خلاصة القول أن الغزو الثقافى يدخل إلينا من كل جانب, من الصحف و المجلات و الكتب المدرسية و التلفزيون و الإذاعة!!
و بهذا تكون إرادة التبعية الحضارية و الثقافية نابعة من قلوب الناس و من عقول النخبة الحاكمة, فتتحقق شروط نجاح تلك التبعية (إرادة فوقية و إرادة تحتية).
يبرر بعض أنصار التغريب الأمر بنفى صفة الغزو عنه, فينعتونه بالتلاقح الثقافى أو حوارا ثقافيا حضاريا لابد منه, أو بأن الغرب قد أثبت نجاحه فعلينا اتباعه, أو بأن الثقافة الغربية هى الثقافة (الكونية) و التى يجب أن تسود.
و هذا كله محض هراء و شعارات واهية ; فأى تلاقح ثقافى هذا الذى ينتج عنه شبابا يجدون صعوبة بالغة فى قراءة نص بلغتهم الأم؟!! أى حوار فكرى هذا الذى ينتج شبابا لا يعرفون شيئا عن تاريخهم سوى القشور الزائفة التى تشربوها فى المدارس؟!!
إنه ليس تلاقحا و لا حوارا و إنما إغتصابا ثقافيا.
تتكون الهويات الثقافية للمجتمعات البشرية من عدة عناصر رئيسة تتمثل فى اللغة و الدين و الأعراف و القيم الأخلاقية و التاريخ, و تتباين درجة إنتماء تجمع بشرى معين الى إحدى الثقافات بناءا على توافر (وحدة) كل عنصر من تلك العناصر المذكورة.
و تعد الهوية الثقافية أوسع و أكبر قاعدة للتعريف بالذات, فساكن مدينة القاهرة مثلا يمكن أن يعرف نفسه - من ناحية الإنتماء الثقافى - كمصرى و عربى و مسلم و إفريقى, و ساكن مدينة روما يمكن أن يعرف نفسه كرومانى و إيطالى و كاثوليكى و غربى و أوروبى, و يمكن لآخرين أن يعرفوا أنفسهم على مستويات ثقافية أوسع. و لكن الهوية الثقافية لا ترتبط حتميا بالبعد الإقليمى ; فالثقافة الغربية مثلا تظهر فى أمريكا الشمالية مثلما تظهر فى أوروبا, و تشق طريقها فى غيرها من البلدان التى ما زالت تحتفظ بهويات ثقافية مستقلة.
الغزو الثقافى صنو للغزو العسكرى
قديما كانت البلدان الإستعمارية الكبرى تقوم بعملية الغزو العسكرى للبلدان الأقل تحضرا بغرض إستنزاف مواردها و إخضاعها لتبعية الدول الأكثر تحضرا, و كان سكان تلك البلاد الأصليون يدخلون فى قائمة تلك الموارد المستنزفة, لكونهم - من منظور المستعمر المتحضر - أجناس دنيا من الهمج و البرابرة و الرعاع, و لذا فكان من الطبيعى أن يكونوا أدواتا تستخدم لخدمة الغربى الأبيض المتحضر.
و بمرور الأزمنة لم تتغير غاية الدول الإستعمارية الكبرى فى إستنزاف موارد العالم و إخضاع الشعوب لتبعيتها, و لكن الوسيلة تطورت - و إن لم ينتهى إستخدام الوسيلة الأولى فى كثير من الأحيان - فبدلا من إحتلال الأرض وجد إحتلال العقل, و بدلا من إحتلال الأوطان وجد إحتلال الوجدان و إحتلال الإنسان.
و هذا هو جوهر التفرقة بين الغزو العسكرى الذى يدمر و يخضع بقوة السلاح من الخارج, و بين الغزو الثقافى و الفكرى الذى يدمر و يخضع من الداخل, تخضع الشعوب بمطلق إرادتها الحرة. يقول إبن خلدون :
"إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها"الغزو العسكرى عملية إحتلال و إستعمار للأرض بهدف إستنزاف مواردها, عملية تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة و تهتك الأحجبة و تراق الدماء و يتم إجبار المستعمر (بفتح الميم) على قبول رغبات المستعمر (بكسرها) بقوة السلاح الغاشمة, أما الغزو الثقافى فهو عملية إحتلال و إستعمار للعقل البشرى, و طمس لهوية المجتمع المستعمر دون الحاجة الى قوة السلاح.
و فى أحيان يرافق الغزاة العسكريين طلائع غزو ثقافى, و فى أحيان تأتى طلائع الغزو الثقافى وحدها تستعمر العقول و تدمر و ترسم الخطط لنقل المستعمر (بفتح الميم) عن مساره العقلى مثلما ينقل القطار من خط لآخر.
روافد الغزو الثقافى
الأفكار الغاربة التى يبثها الغزو الثقافى تجد تربتها الخصبة الصالحة لنموها و إنتشارها فى المجتمعات المتصدعة ثقافيا و أخلاقيا الخاوية فكريا, بعض تلك المجتمعات قد لا يكون من السهل إستعمارها عسكريا, و لكنها لديها قابلية للإستعمار على المستوى الثقافى و الفكرى. و إذا وجدت تلك الأفكار الغاربة مقاومة أو عدم قبول لدى المستعمر (بفتح الميم) ما تلبث أن تتلفح بعباءات ليست لها, فنرى على سبيل المثال إسلاما ليبراليا و آخر إشتراكيا و ثالث يمينيا و رابع تقدميا, و لربما وجدنا إسلاما علمانيا أو إسلاما إلحاديا فى المستقبل القريب.
تسلك طلائع الغزو الثقافى سموتا متنوعة و تشق طرقا عديدة لتحقق أهدافها, منها أن تكون النخبة المتربعة على رأس السلطة مؤيدة و متحمسة و فاعلة و متحركة بحزم فى إتجاه عملية طمس الهوية الثقافية للأمة, و منها أن تورد الأفكار الغاربة عن طريق الأفلام و المسلسلات التلفزيونية فيتوهم الناس أن تلك أمور طبيعية و تلك سنن الحياة و نواميسها. و منها أن تشرع الأقلام و العقول التغريبية فى بث أفكارها فى الصحف و المجلات. و منها أن يفرض المستعمر سطوته على الجهاز الإعلامى بالكلية, و هذا هو أهم رافد من روافد الغزو الثقافى و الفكرى; فالجهاز الإعلامى بشقيه التلفزيونى و الإذاعى له التأثير الأعظم على تشكيل وعى المواطن. فالمواطنون و خاصة ذوى الوعى الضحل يكونون أمام وسائل الإعلام مجرد متلقين سلبيين, فعندما تسيطر الحكومات و النخب على الأجهزة الإعلامية يسهل أن تغير قيم و إعتقادات المواطنين السلبيين عبر التكرار و الإلحاح الدائم بأن كذا و كيت هو الصحيح و هذا و ذلك علينا التخلى عنه.
و بهذا فإن ما يفعله السلاح بقوة غاشمة, تفعله الأجهزة الإعلامية, ولكن الفارق أن فى الحالة الثانية يكون المواطن راض و متقبل بل و مقتنع يقينا بأن هذا الأمر (الذى كان يرفضه من قبل) أمر طبيعى و واجب و لا بد منه.
كما يعد الكتاب المدرسى رافد فى غاية الأهمية من روافد الغزو الثقافى و طمس الهوية و إلغاء الشخصية, فالطالب ينشأ منذ الصغر على أن كذا و كذا و كذا هى الأمور العلمية و الصحيحة, و أن عليه فعلها لكى يصل الى درجة التقدم الموجودة فى الغرب المتحضر.
و يتم تزييف الحقائق التاريخية لتتلائم مع الفكرة المطلوب (تشريبها) للطالب الناشئ.
ففى الدول الشيوعية كان الطالب يتشرب الأيدولوجية من الصغر لينشأ شيوعيا دون تفكير, هناك قول مأثور عن فلاديمير لينين يوضح هذا الأمر و هو "أعطنا الطفل لمدة 8 سنوات و سيصبح بلشفيا للأبد". و فى الدول الرأسمالية يتشرب الطالب ما يتوافق و التوجه الإقتصادى للدولة.
و خلاصة القول أن الغزو الثقافى يدخل إلينا من كل جانب, من الصحف و المجلات و الكتب المدرسية و التلفزيون و الإذاعة!!
و بهذا تكون إرادة التبعية الحضارية و الثقافية نابعة من قلوب الناس و من عقول النخبة الحاكمة, فتتحقق شروط نجاح تلك التبعية (إرادة فوقية و إرادة تحتية).
يبرر بعض أنصار التغريب الأمر بنفى صفة الغزو عنه, فينعتونه بالتلاقح الثقافى أو حوارا ثقافيا حضاريا لابد منه, أو بأن الغرب قد أثبت نجاحه فعلينا اتباعه, أو بأن الثقافة الغربية هى الثقافة (الكونية) و التى يجب أن تسود.
و هذا كله محض هراء و شعارات واهية ; فأى تلاقح ثقافى هذا الذى ينتج عنه شبابا يجدون صعوبة بالغة فى قراءة نص بلغتهم الأم؟!! أى حوار فكرى هذا الذى ينتج شبابا لا يعرفون شيئا عن تاريخهم سوى القشور الزائفة التى تشربوها فى المدارس؟!!
إنه ليس تلاقحا و لا حوارا و إنما إغتصابا ثقافيا.